نظرة الألف ياردة Thousand-yard stare، هي تلك النظرة التي تشعر وكأنك تسمع ما تقوله عيونُ الشخص الذي يعانيها، كما يحدث لدى أطفال وأهل غزة حاليًا. مِن تصوُّرنا للعالم من حولنا إلى الطريقة التي نشعر بها داخل أنفسنا، يمكن أن تؤثّر الصدمة علينا بطرق عديدة. يمكننا أن نشعر بها نفسيًا في صورة قلق وإرهاق وخدر، أو جسديًا بصورة مشكلات في النوم وحالات صحية طويلة الأمد.
ولكن على الرغم من أن الصدمة قد تبدو أحيانًا غير مرئية، فإن هناك علامات خارجية، مثل نظرة الألف ياردة، على سبيل المثال. غالبًا ما ترتبط هذه العبارة بالمحاربين القدامى، وتصف التعبير المنفصل الذي يمكن أن يحدث عند الأشخاص الذين يعانون من صدمة القتال أو غيرها من حالات الصحة العقلية. فيما يلي، سنناقش ماهية نظرة الألف ياردة، وعلم النفس الكامن وراء آلية التكيف هذه، وكيفية الحصول على علاج.
ما هي نظرة الألف ياردة ؟
نظرة الألف ياردة هو مصطلح يصف التعبير الخالي من المشاعر الذي يعاني منه الأشخاص أحيانًا بسبب التوتر الحاد أو الانفصال، إنها مظهر إيمائي أو تعبيري لصدمة نفسية عميقة أو حدث مؤلم يستمر مع مرور الوقت.
ومن المثير للاهتمام أن الطبيب يوهانس هوفر ذكر هذه الخاصية في وقت مبكر من القرن السابع عشر، وقد أُخِذت هذه العبارة حديثاً من لوحة تسمى "Marines Call It That 2000 Yard Stare" للفنان توم ليا. نُشرت هذه اللوحة في الأصل في مجلة لايف عام 1945، وهي تُصوِّر جنديًا من الحرب العالمية الثانية يقف أمام ساحة معركة متفحمة وهو يحدق للأمام بنظرة منفصلة.
لقد كان تعبيره يصور بشكل مثالي تشريح الألم النفسي، إنه يصور الجروح الداخلية التي غالباً ما يكون من الصعب شفاؤها. وبمرور الوقت، أصبحت عبارة "نظرة الألف ياردة" مرادفة للصدمة القتالية أو صدمة القذيفة لدى الأفراد العسكريين. ومع ذلك، فإنه يمكن أيضًا أن يصف التعبير العاطفي نفسه الذي قد يواجهه الأشخاص الذين يعانون من الصدمة أثناء نوبات الانفصال.
عندما ينظر شخص ما لمسافة ألف ياردة، تظهر عليه الأعراض الآتية:
- قد يكون لديه تعبير منفصل أو غير مركّز أو خالٍ من المشاعر على وجهه.
- قد يكون منعزلًا وغير مدرك لما يحدث حوله.
- قد لا يستجيب لما تفعله أو تقوله له.
وقد تحدَّثت الكاتبة جوان ديديون عن هذه الظاهرة في كتابها "عام التفكير السحري"، وروت تجربتها بعد الوفاة المفاجئة لزوجها جون جريجوري دن، وقد كتبت ديديون أن الأشخاص الذين يتعاملون مع الصدمات يتعرفون على بعضهم بعضًا من خلال النظر في أعينهم. يبدو الأمر كما لو قمت بزيارة طبيب العيون وقام بتوسيع حدقة العين، يجعل عينيك تبدو فارغة تمامًا. ومع ذلك، في الواقع، تظهر نظرة الألف عام من خلال سلسلة من العمليات النفسية.
سيكولوجية نظرة الألف ياردة
بالطريقة نفسها التي تعمل بها استجابتنا للضغط على إعداد أجسادنا للقتال أو الفرار، فإن الانفصال هو نوع آخر من الاستجابة للتوتر، ولكن على عكس استجابة القتال أو الهروب، فإن الانفصال ذو طبيعة نفسية أكثر.
يمكن أن يؤثر الانفصال على إدراك الشخص ووعيه وذاكرته وهويته، وحتى التحكم في حركته. إنه موجود في نطاق واسع، مع تجارب تتراوح من الانفصال الخفيف إلى الحالات الأكثر شدة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطراب الهوية الانفصامية (DID).
عندما ينفصل شخص ما، يشعر بالانفصال عن نفسه أو عن العالم من حوله. وقد يشعر أيضًا بمشاعر الخدر الجسدي والعاطفي، أو لديه ذكريات الماضي، وكل ذلك يمكن أن يجعله يبدو غير مركز، أو منعزل.
يمكن أن تتسبب العديد من حالات الصحة العقلية في تعرُّض الشخص لنوبات متكررة من الانفصال. على سبيل المثال، يمكن أن يتسبب كل من اضطراب الإجهاد الحاد والاستجابة للضغط الحاد في ظهور شخص ما في حالة ذهول أو ارتباك.
يُعَد الانفصال أيضًا أحد الأعراض الموثقة لاضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الشخصية الحدية (BPD)، واضطرابات الصحة العقلية الأخرى. هذه هي الحالات التي تُنتِج تأثيرًا عاطفيًا يمكن أن يتردد صداه لعدة أشهر أو حتى سنوات. في هذه الحالات يكون المصاب:
- يعاني من الأرق ونوبات الهلع، ويُظهِر سلوكًا غير منتظم.
- ينظر إلى نقطة ثابتة في الفضاء.
- يتبنى تعابير وجه تبدو وكأنها متجمدة في مكان ما بين الحزن والخوف والاكتئاب والدهشة.
وتزعم دراسة أجرتها جامعة وايدنر في الولايات المتحدة الأمريكية، أنه غالبًا ما يتم تجاهل كيفية توسط الصدمة في المواقف التي ينقسم فيها العقل للابتعاد عن الألم. ومن بين التأثيرات الأخرى، يُظهِر المريضُ الحيرةَ والبعد عن الواقع. إضافة إلى ذلك، فإنه يعاني من مشكلات في الهوية وفشل في الذاكرة.
ما الذي يمكن أن يسبب نظرة ألف ياردة لدى الطفل؟
قد يستخدم الأطفال الذين يعانون من مواقف ساحقة أو مخيفة أو مؤلمة الانفصال للتعامل مع ما يمرون به. تمامًا مثل نظرة الألف ياردة عند البالغين، يمكن أن يبدو الأطفال مخدَّرين ومنفصلين خلال هذه النوبات.
في دراسة أُجريت عام 2017، استكشف الباحثون السمات المشتركة للنوبات الانفصالية لدى الأطفال المعرَّضين لأحداث أو مواقف صادمة، فقد وجدت نتائج الدراسة أن الأعراض الأكثر شيوعًا لدى الأطفال خلال نوبات الانفصال تشمل التباعد أو الظهور منغلِقًا وبعيدًا. خلال هذه النوبات، كان من الشائع أيضًا أن يبقى الأطفال ساكنين جسديًا ومنعزلين عن الآخرين.
على الرغم من أن الانفصال هو استجابة طبيعية للتوتر لدى الأطفال، فإنه يمكن أن يكون تجربة مخيفة لكل من الأطفال وأولياء أمورهم. إذا كان لديك طفل يعاني من الانفصال المتكرر، ففكر في التواصل مع طبيبه أو معالجه لمناقشة العلاج.
نظرة الألف ياردة عند البالغين
في عام 2003، كتبت المجلة الأمريكية لعلم الأوبئة عن الحالات العقلية الأكثر شيوعًا بين قدامى المحاربين في حرب الخليج، وكان معظمهم يعانون من الإجهاد اللاحق للصدمة ومتلازمة التعب المزمن. كانت نظرة الألف ياردة متكررةً بين هؤلاء المارينز أو الجنود الذين كانوا في الخطوط الأمامية للمعركة.
الأحداث الدرامية والعنيفة للغاية تُضعِف صحتنا العقلية، خاصة إذا تعرضنا لها لفترة طويلة. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نميل إلى الانفصال عن أحاسيسنا الجسدية وعن البيئة، وبالتالي، من الشائع رؤية هذا النوع من النظرات الفارغة على وجوه المصابين بالصدمات. يبدو أنهم ضائعون في العدم المطلق.
كما يُظهر شهود أو ضحايا سيناريوهات الحرب، أو الكوارث الطبيعية، أو تجارب الدراما الكبيرة والتجريد من الإنسانية مثل الهجمات، هذه الخاصية.
لماذا نحدق في الفضاء كثيراً؟
من الطبيعي بالنسبة لنا أن نحلم بأحلام اليقظة أو نبتعد من وقت لآخر، خاصة عندما نتعامل مع ضغوطات الحياة اليومية.
ولكن إذا لاحظْت أنك تنعزل بشكل متكرر أو تعاني من أعراض أخرى للانفصال، فقد يكون من المفيد التواصل مع معالج، يمكنك بالتعاون معه معرفة سبب انفصالك، واستكشاف خيارات العلاج التي يمكن أن تساعدك.
هل يمكن علاج نظرة الألف ياردة؟
نظرة الألف ياردة هي سمة سريرية للصدمة النفسية أو اضطراب الإجهاد الحاد. إذا لم يتم علاجها، ستؤثر على النفسية مع مرور الوقت، وهذا يؤدي بالمصاب إلى نوعية حياة سيئة وإشكالية، وتتطلب هذه الحالات دائمًا مساعدة نفسية فورية.
إن الفشل في علاج المصابين يعني أنهم سيصبحون أفرادًا ذوي أداء منخفض. على هذا النحو، لن يكونوا قادرين على تنفيذ مهام مثل الاحتفاظ بالوظائف، أو التواصل الاجتماعي، أو اتخاذ القرارات. علاوة على ذلك، يحتاج المصابون بالصدمة إلى دمج التجارب التي عانوا منها، ويجب عليهم أيضًا معالجة المشاعر والأفكار المختلة وظيفيًا الشائعة جدًا في التجارب المؤلمة.
إن أولئك الذين يُظهِرون نظرة الألف ياردة سيحتاجون دائمًا إلى تقييم نفسي مناسب، ولذلك، يحتاج المهنيون إلى معرفة حالات ومتطلبات كل مريض على حدة. كقاعدة عامة، يعتمد العلاج على الأدوية ذات التأثير النفساني والعلاج النفسي.
يُعَد علاج إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة (EMDR) هو الأكثر دعمًا للصدمات النفسية من ناحية الأدلة العلمية، ابتكرته عالِمة النفس فرانسين شابيرو في الثمانينات لعلاج قدامى المحاربين.
الصدمة النفسية هي ظاهرة متعددة الأوجه ذات أعراض واسعة النطاق. مما لا شك فيه أن وجود متخصصين جيدين مدرَّبين في هذا المجال يُسهِّل على المصابين استيعاب ما حدث في حياتهم تدريجيًا، وهذا يخفف من أعباء معاناتهم. علاوة على ذلك، فهو يمنحهم الفرصة لاستعادة السيطرة على حياتهم.
الخلاصة:
الانفصال هو استجابة شائعة للتوتر أو الصدمة التي يمكن أن تجعل الشخص يشعر أو يتصرف منفصلاً عن نفسه أو عن العالم من حوله. عندما يمر شخص ما بنوبة انفصال، قد يكون لديه تعبير فارغ وغير مركّز، وهو ما يُعرف أحيانًا باسم نظرة الألف ياردة.
إذا كنت أنت أو أي شخص تحبه يعاني من أعراض نظرة الألف ياردة، فقد يكون هناك سبب أساسي لذلك. فكِّر في التواصل مع طبيب أو معالِج لمناقشة الأعراض وخيارات العلاج المتاحة لك.
