يتضمن اضطراب التكرار القهري Repetition compulsion تكرار مواقف مؤلمة جسديًا أو عاطفيًا حدثت في الماضي. ويسمى التكرار القهري أيضًا في بعض الأحيان إعادة تنشيط الصدمة، وقد يتخذ التكرار القهري شكل أحلام متكررة، وقد يؤثر على العلاقات مع الآخرين بأشكال مختلفة. لدى الخبراء العديد من النظريات لشرح العوامل التي قد تسبب هذه الظاهرة.
فسَّر سيغموند فرويد، وهو أب التحليل النفسي، هذه الظاهرة، وكانت وجهة نظره هي أن عدم قدرة الشخص على مناقشة أو تذكّر الأحداث السابقة المؤلمة قد تقوده إلى تكرار هذه الصدمات بشكل قهري إلزامي.
إحدى الاستراتيجيات المحتملة للتغلب على اضطراب التكرار القهري هي التحليل النفسي، والذي يتكوّن من استكشاف وتحديد الصدمة المبكرة التي قد تكون مسؤولة عن عمليات إعادة التذكّر اللاحقة.
تابِع القراءة معنا لمعرفة المزيد حول التكرار القهري، بما في ذلك النظريات الأساسية حول أسبابها، وكيف تؤثر على العلاقات، والاستراتيجيات للتغلب على هذا السلوك.
ما هو التكرار القهري؟
يشير التكرار القهري إلى الحاجة غير الواعية لاستعادة التذكر والشعور بالصدمات النفسية السابقة، ويكرر الشخص المصاب بهذه الحالة الشعور بهذه الصدمات في المواقف الجديدة التي قد ترمز إلى الصدمة الأولية.
يمكن أن يشكل التكرار القهري عائقًا أمام التغيير العلاجي لدى الشخص، ويهدف العلاج إلى مساعدة الشخص على تذكّر الصدمة، وفَهم كيفية تأثيرها على سلوكه الحالي.
فمثلًا، قد يكون الشخص الذي عانى من العنف في طفولته أكثر عرضة ليرتكب العنف في الحياة اللاحقة، والعجز الذي شعر به كطفل قد يحفّزه على اتخاذ قرار بارتكاب العنف لتجنب الشعور به مرة أخرى. هذا السلوك هو شكل من أشكال التكرار القهري.
على الرغم من أن هذه الأمثلة تُظهر الآثار السلبية للتكرار القهري، فإن إعادة تنشيطه يمكن أن تكون إيجابية أيضًا. مثال على إعادة التنشيط التكيفي عندما يروي فرد حزين قصصًا عن أحبائه المفقودين مرارًا وتكرارًا، وهذا يمكّنه من العمل من خلال فقدانهم، ويمكن أن يقلل من الألم الذي يأتيه عادةً.
علامات التكرار القهري
يمكن أن يؤثر التكرار القهري سلبًا على حياتك وصحتك العقلية، ويقدّم نفسه بالطرق الآتية:
- تجربة الأحلام المتكررة.
- الانخراط في علاقات متعددة سيئة خلال مرحلة البلوغ.
- الانخراط في علاقات مع أشخاص بعيدين عاطفياً.
- وجود التكرار القهري له الأسبقية على المتعة.
- تكرار نفس السلوك الضار دون تغيير أي شيء.
- شعور الشخص بأنه متجه إلى مصير غير مناسب.
أنماط التكرار القهري في العلاقات
فيما يلي بعض الأمثلة على أنماط التكرار القهري للسلوك في العلاقات:
- الانفصال: يمكن للشخص الذي تعرض للضرب العنيف عندما كان طفلاً أن يستخدم تقنية تسمى الانفصال كآلية للتكيف، وقد يؤدي هذا إلى الانفصال في العلاقات اللاحقة. يشير الانفصال إلى عدم قدرة الشخص على التعامل بشكل كامل مع مشاعره أو مشاعر الآخرين.
- الألفة: قد يبحث الإنسان عن الراحة من خلال الألفة، حتى لو تعلق الأمر بشيء سلبي. على سبيل المثال؛ قد يبحث فرد عن شريك يتمتع بشخصية والده البعيد.
- كراهية الذات: قد يؤدي التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة إلى مشاعر كراهية الذات، ويجعل الشخص يشعر وكأنه يستحق سوء المعاملة. كشخص بالغ، قد يؤدي ذلك إلى انجذابه نحو الآخرين الذين يسيئون معاملته.
- الهجر: بعد تجربة الهجر عندما كان طفلًا، قد يُظهِر الشخص التملك والتشبث في العلاقات لاحقًا في الحياة. تنبع هذه السلوكيات من الرغبة في تجنب المزيد من الهجر.
- محفزات مشاعر الماضي: قد يشعر الشخص الذي أهمله والداه، أو مقدمو الرعاية له عندما كان طفلاً، بمشاعر الغضب تجاه هذا الموقف. ونتيجة لذلك، قد يصبح الشخص غاضبًا بشكل مفْرط في وقت لاحق من حياته، حتى ردًا على حادث بسيط. على سبيل المثال؛ يمكن أن يغضب عندما لا يرد أحد الأصدقاء على مكالمة هاتفية.
- السلوك بدافع الخوف: وكمثال على ذلك، كانت هناك روابط بين الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة وارتكاب الدعارة في مرحلة البلوغ. يَستشهد البحث بمثال محدد أوضحت فيه امرأة أنّ تورَّطها في الدعارة كان محاولة للسيطرة على الجنس الآخر بعد أن كانت ضحية لسوء المعاملة في وقت سابق من حياتها.
الأسباب
تتضمن بعض الأسباب المحتملة للسلوكيات القهرية المتكررة ما يلي:
-
دفاعات جامدة
قد يكون لدى الأشخاص طريقة جامدة أو غير مرنة للدفاع عن أنفسهم ضد تكرار صدمتهم، ولكن وجود هذه الآليات يمكن أن يؤدي عن غير قصد إلى حدوث إعادة تمثيل على أي حال.
على سبيل المثال؛ قد يتصرف الشخص الذي يعاني من الهَجر في طفولته بطريقة تملُّكية في علاقاته لاحقًا في الحياة، لتجنب مشاعر الوحدة أو الإهمال الماضية. ومع ذلك، قد يخاطر الشخص بفقد شريكه إذا تصرف بهذه الطريقة، وقد ينتهي به الأمر بالشعور بهذه المشاعر على أية حال.
-
خلل التنظيم العاطفي
يرتبط خلل التنظيم العاطفي بوجود ردود أفعال عاطفية سيئة التنظيم استجابةً للمحفّزات السلبية. على سبيل المثال؛ قد يعاني الأشخاص الذين يعانون من الرفض القاسي والمتكرر من أحد الوالدين، أو من مقدم الرعاية، من تدني احترام الذات. وقد يكونون أيضًا حساسين جدًا للنقد، وبالتالي، في العلاقات اللاحقة، قد يَعتبر هؤلاء الأشخاص النقدَ قاسيًا، حتى عندما لا يكون كذلك، ويستجيبون بعدائية.
-
عجز الأنا
يمكن أن يشير عجز الأنا إلى محدودية الموارد العقلية، وقد يَظهر هذا القيد بصورة مشكلات نفسية اجتماعية مختلفة لدى الشخص.
قد يؤدي سوء المعاملة على المدى الطويل إلى آثار نفسية اجتماعية، يمكن أن تشمل:
- السلوك المسيء للذات.
- تدني احترام الذات.
- اضطرابات تعاطي المخدرات.
- عدم القدرة على الثقة.
- العلاقات الشخصية الصعبة.
على سبيل المثال؛ قد يشعر الشخص الذي لديه تاريخ من النمو في بيئة مسيئة بالتردد في ترك شريك مسيء في وقت لاحق من حياته، وقد ينبع هذا التردد من عدم القدرة على الثقة بالآخرين لتقديم المساعدة اللازمة.
الأسباب الأخرى للتكرار القهري
كما يشير الخبراء إلى أن الأسباب الأخرى للتكرار القهري تشمل:
- العودة إلى حالة سابقة.
- السعي للفَهم والبحث عن الإجابات.
- لَفت الانتباه.
- وجود تمثيل عقلي لصدمات الماضي.
- الحفاظ على النمط المعتاد.
- خَلق آلية الدفاع.
- مشاهدة الخيانة عندما كان طفلًا.
- الاعتداء الجسدي أو العاطفي.
إدارة التكرار القهري
إذا وجدتَ أنك عالِق في الدوافع القهرية المتكررة، فيمكنك القيام ببعض الأشياء للمساعدة في التعامل معها.
-
معالجة الماضي
جزء من عملية إدارة التكرار القهري هو العمل على معالجة الصدمات الماضية، واعتراف بما حدَث في الماضي، واتخاذ قرار واعي بعدم السماح لتلك الآلام بالتأثير على قراراتك وعلاقاتك المستقبلية.
افهم أن الأنماط التي تكررها لم تصنعها أنت، وإنما تسبَّب بها شخص آخر في وقت كنت فيه على الأرجح أكثر عرضة للإصابة.
من المهم أن تفهَم أن هذا النمط لن يُشفَى مِن قِبل الشخص الذي تسبّب لك في الصدمة، بل إن الأمر متروك لك للشفاء.
من المفيد أن تفهم أن لديك قيمة، بغض النظر عن الصدمة التي مررتَ بها في الماضي. أنت تستحق أيضًا علاقات وثيقة صحية وداعمة.
-
معالجة آليات المواجهة
حتى تكون قادرًا على الشفاء من الصدمة، سيتعيَّن عليك أيضًا معالجة أي آليات تكيف غير صحية أو سلوكيات سلبية تنخرط فيها.
تُستخدم بعض آليات الدفاع تقليديًا للحماية من مشاعر الصدمة الساحقة، ويمكن أن تشمل تعاطي المخدرات، وإيذاء النفس، والعنف ضد الآخرين.
-
تقبّل فكرة أن تاريخ حياتك لا يمكن إعادة كتابته
السبب الرئيسي للأفعال القهرية المتكررة هو الحاجة إلى إعادة كتابة الماضي، يجب أن نتقبل أن تاريخ حياتنا لا يمكن إعادة كتابته، وأنه يمكنك فقط التأكد من العثور على شخص داعم ليكسر الحلقة المفرغة.
في بعض الأحيان، يجب أن تتقبل أن بعض الأشخاص لن يتغيروا مهما فعلت، ومن المرجح أن يحتاج الأشخاص الذين تسببوا في الصدمة إلى مساعدة متخصصة، وهذا ليس شيئًا يجب أن تحمله كعبء على نفسك، لا يمكن أن نتوقع منك مساعدة شخص مسيء.
كيفية التوقف عن ممارسة التكرار القهري
يمكن أن يتداخل التكرار القهري مع صحتك وشفائك العاطفي. ومع ذلك؛ يمكنك إجراء تغييرات لكسر هذا النمط وتطوير آليات التكيف الصحية.
-
العلاج النفسي الديناميكي
إحدى طرق التغلب على التكرار القهري هي العلاج النفسي الديناميكي، ويتضمن استكشاف وتحديد الصدمات الماضية التي يمكن أن تساهم في تكرارها. يساعدك هذا على فهم أي مشكلات اللاوعي التي تواجهها.
يمكن أن يساعدك العلاج النفسي الديناميكي على فهم تأثير ماضيك على حياتك، فهو يسمح لك بمعالجة التجارب المؤلمة والتغلب عليها، مما يؤدي إلى مشاعر أقل حدة. من المحتمل أن يكون لديك حُكم أفضل للمضي قدمًا، مما يَسمح لك بكسر نمط التكرار القهري.
-
العلاج السلوكي المعرفي
يتضمن العلاج السلوكي المعرفي (CBT) التعرف على الأفكار التلقائية المختلّة. يمكن أن يساعد العلاج السلوكي المعرفي في تخفيف هذه الأفكار السلبية، مما يسمح لك بالتفكير بطرق واقعية.
إذا اخترت تجربة العلاج السلوكي المعرفي، فستعمل مع معالِج لتغيير أنماط التفكير والسلوكيات. هذا النوع من العلاج أكثر توجّهاً نحو العمل من العلاج النفسي الديناميكي، لذلك ستقضي وقتًا أقل في مناقشة الصدمات السابقة التي تعرَّضْت لها، ووقتًا أطول في تعلم مهارات جديدة.
-
العلاج الجماعي
العديد من الأشخاص الذين يعانون من الصدمة يحبون أيضًا المشاركة في العلاج الجماعي. يمكن أن يكون العلاج الجماعي للصدمة وسيلة لتقليل الشعور بالوحدة مع الألم، والشعور بالتضامن مع الأشخاص الذين لديهم تجارب مماثلة.
يمكنك إما التركيز فقط على العلاج الجماعي، أو يمكنك استكماله بالعلاج الفردي. يفضِّل العديد من الأشخاص العلاج الجماعي ليس فقط بسبب الجانب الموجّه نحو العلاقات، ولكن أيضًا لأنه يميل إلى أن يكون أقل تكلفة.
-
استخدام تقنيات المساعدة الذاتية
التعافي من الصدمة هو الخطوة الأولى نحو كسر أنماط التكرار القهري. على الرغم من أن العمل مع معالِج الصدمات هو الأفضل على الأرجح، فإنه يمكنك في نفس الوقت ممارسة تقنيات المساعدة الذاتية في المنزل.
يتضمن جزء من التكيّف تذكير نفسك بأنه على الرغم من عدم قدرتك على تغيير الماضي، فإنه يمكنك المضي قدمًا نحو الحاضر والمستقبل، وعيش حياة صحية.
تتضمن بعض الممارسات المنزلية التي يمكنك تجربتها ما يلي:
- القيام بالتأكيدات الإيجابية.
- كتابة اليوميات.
- التنفس العميق.
- تنبيه الذهن بالتأمل.
- ممارسة اليوغا.
- التصور الإيجابي.
الخلاصة:
قد يحدث التكرار القهري، أو إعادة تنشيط الصدمة، بسبب التجارب المؤلمة المختلفة في وقت مبكر من الحياة، مثل الإساءة البدنية أو الجنسية أو العاطفية. يمكن أن يؤدي عدم القدرة على حل أو دمج الصدمة السابقة إلى استعادة الشخص لمشاعر التكرار القهري.
يمكن أن يؤدي التحليل النفسي والعلاج النفسي إلى تمكين شخص ما من العمل من خلال الصدمة، والتي يمكن أن تساعد في إيقاف التكرار القهري.
