خلايا المناعة والتفاعل المَنَاعي

خلايا المناعة ودورها في حماية الجسم من الأمراض

إذا شبهنا كل زُمرَة مَناعية في خلايا جسم الإنسان بأنها مثل السارية التي تَرفع عَلَماً خاصاً بها على سطح السفينة، ويمكننا أن نتصور أنّ كل جزيء من جزيئات الزمر المناعية HLA التي توجد في خلايا جسمنا يَرفع في قمَّته (أو فَجوته) جزءاً من البروتينات التي تُصنَع داخل كل خلية، ويَعرضها على سطح الخلية، مثل سارية العَلَم. يوجد أكثر من 100،000 جزيء من جزيئات الزُمَر المَنَاعية على سطح كل خلية، ويمكننا أنْ نتصَور قدرتها على تقديم نماذج كافية للتعريف بالبروتينات التي تَصنعها كل خلية. وبفضل هذا، فإن خلايا المَناعة التي تتولى حماية جسمنا مما هو غريب عنه تستطيع التعرف على الأعلام المرفوعة، وكَشْفَ الخلايا التي تَصنع بروتينات غريبة عن جسمنا، وتقوم بالتعامل ضدها وقتلها بإفراز المضادات والمواد القوية التي تَخترق جدار الخلية المريضة فتقتلها وتحللها.

ماذا يحدث للمناعة عند الإصابة بفيروس الإيدز؟

من المعروف أن أحد أسباب صعوبة دفاع الجسم ضد فيروس الإيدز هو التنوع والتغيّر الكبير في مادته الوراثية، فيُصاب الإنسان أحياناً بأنواع عديدة من هذا الفيروس تَختلف اختلافاً طفيفاً في مادتها الوراثية. كما تتغيّر المادة الوراثية لفيروس الإيدز الداخل إلى الجسم إلى تَنوعات جديدة خلال أيام من الغزو، مما يصعب على خلايا المَناعة أن تحدد هدفها والقضاء عليه. فإذا شَبَّهنا سلسلة تكاثر فيروس الإيدز بشجرة كثيرة الأغصان، ندرك مدى صعوبة صنع أجسام مضادة ضد جميع الأغصان والتفريعات.

ولكن إذا وُجَدَتْ زُمَر مَناعية في جسم المُصاب من فئة تستطيع عرض أجزاء أساسية من بروتينات الفيروس المُعْدِي (مثل عَرض بروتينات جِذع الشجرة الأساسي)، فإنّ خلايا المَناعة التي تَتَعرف على هذه الزُمَر تستطيع قتل أكثر أو جميع تنويعات الفيروس مهما اختلفت في تفاصيلها وفروعها غير الأساسية.

ويبدو أن الزُمرَة المَنَاعية HLA-B57 تستطيع عَرض أجزاء من بروتينات أساسية تَصنعها الخلايا المُصابة بفيروس الإيدز، وبالتالي تستطيع الخلايا المَنَاعية القضاء على عدد أكبر من هذا الفيروس مهما كان تنوعها واختلافاتها الطفيفة فيما بينها. كما يبدو أنّ هذه الزُمرَة المناعية أكثر قدرة على تنشيط خلايا المَناعة القاتلة. وهذا يفسِّر أنّ حوالي 50% من البشر الذين ينجحون في السيطرة على فيروس الإيدز يَحملون هذه الزُمرَة المَنَاعية، ولديهم مناعة أقوى ضد الإصابة بهذا المرض.

اكتشاف خلايا مَناعية مختلفة

في سنة 1975، اكتشف الأمريكي رونالد هيربرمان Ronald Herberman (1940-2013) والسويدي رولف كيسلينغ Rolf Kiessing (1941) أثناء دراستهما نشاط خلايا المَناعة في قتل الخلايا السرطانية. أَطلق كيسلينغ على هذه الخلايا الجديدة اسم: الخلايا القاتلة الطبيعية Natural Killer Cells. بدَتْ هذه الخلايا الجديدة غريبة في طريقة عملها، ولا تتعلق بالزمرة الوراثية التي تَحملها الخلايا، بل إنها تتجاهل ذلك تماماً. احتار العلماء في فهمها، على الرغم من أنهم أدركوا أهميتها في رفض الأعضاء المزروعة أحياناً.

أثناء تحضيره لرسالة الدكتوراه تحت إشراف كيسلينغ، اكتَشَف العالِم السويدي كلاس كار Klas Kärre (1954) الطريقة الجديدة التي تقوم بها خلايا المَناعة القاتلة الطبيعية بأنها تَنشَط للقتل عندما لا تجد بروتينات الزُمرَة المَنَاعية على سطح الخلايا التي تواجهها! استغرَب العلماء في البداية قبول هذه الطريقة المختلفة في عمل خلايا المَناعة، إلا أنّ الدراسات المتتابعة أَثبتتْ صحة نظريته، وظَهَر أنّ هذه الخلايا القاتلة تَنشَط للقتل عندما لا تقابل أي زُمَر مَنَاعية على سطح الخلية.

أي أنّ غياب بروتينات الزُمَر المَنَاعية HLA على سطح خلية ما، يُنَبِّه الخلايا القاتلة إلى أنّ هذه الخلية ليست طبيعية، وذلك لأنّ مئات الآلاف مِنْ هذه البروتينات تَنتَشِر عادة على سطح الخلايا الطبيعية السليمة. وهكذا تَنشَط خلايا المَناعة العامة عندما تُقابِل أية خلايا تَحمِل على سطحها أجزاء من بروتينات غريبة عن الجسم مَعروضَة على سطحها، بينما تَنشَط الخلايا القاتلة الطبيعية عندما لا تَجِد بروتينات الزُمَر المَنَاعية على سطح الخلية.

أي إذا عدنا إلى تشبيه ذلك بأعلام السُفُن، يبدو أنّ خلايا المَناعة العامة تهاجِم السُفُن التي تحمِل أعلاماً غريبة، بينما تهاجِم الخلايا القاتلة السُفُنَ التي لا تحمل أية أعلام. أَطلَقَ كار على هذه الحالة المَنَاعية اسم حالة "غياب الذات Missing Self"، وبهذه الطريقة الجديدة تَكتشِف الخلايا القاتلة خلايا الجسم التي أصابها مرض (مثل السرطان)، أو فيروس (مثل الإيدز)، وأدى إلى حدوث تغييرات غير طبيعية فيها. ولذلك تعتبر هذه الخلايا القاتلة الطبيعية ضرورية أيضاً للمحافظة على سلامة الجسم والقضاء على الخلايا المريضة فيه.

ما يفيدنا قد يكون ضاراً في بعض الأحيان!

وَجَد العلماء أنّ حَمل الزُمرَة المَنَاعية HLA-B27 يَمنح الإنسان قدرة أكبر على مقاومة فيروس الإيدز. ولكن لوحظ أن هذه الزُمرَة نفسها هي أكثر تواجداً لدى المرضى المصابين بالتهاب الفقرات اللاصِق! وهكذا فإن حَملنا لزُمرَة مَناعية ما، قد يكون مفيداً لنا في مقاومة بعض الأمراض، إلا أنه قد يجعلنا أكثر عُرضَة لأمراض أخرى أحياناً. وقد اكتَشَف العلماء لائحة طويلة من الأمراض التي تتعلق بحَملِنا زُمَراً مَناعية معيَّنة، مثل ارتباط الزُمرَة HLA-DR03 والزُمرَة HLA-DR04 بداء السكري الوراثي من النوع الأول. ووجود علاقة بين زُمَر مَناعية معيَّنة وبعض أمراض السرطان وداء باركينسون وبعض التهابات الأمعاء والقولون...

الزمر المناعية تؤثر على حياتنا

تؤَثر مُوَرِّثَات زُمَر التَوافق المَنَاعية على حياتنا، وربما تُحدِّد الأمراض التي يمكن أن تصيبنا، والسبب الذي قد يؤدي إلى وفاتنا. ولكن يجب التنبيه هنا إلى أنّ الزُمَر المَنَاعية ليست العامل الوحيد الذي يؤثر في نتيجة تفاعل جسمنا مع الأمراض المختلفة، وليست المُؤَثِّر الوحيد في نتيجة تَعَرُّضِنا للجراثيم والفيروسات المختلفة، لأنّ ذلك يَتَعلق أيضاً بعوامل صحية وثقافية واجتماعية كثيرة مختلفة، مثل سوء التغذية وأمراض الطفولة وكثرة التعرض للأمراض والجراثيم والفيروسات المختلفة وإدمان المخدرات وممارسة العادات الجنسية السيئة ...

وعلى كل حال، يبدو أنّ التنوع الغزير في الزُمَر المَنَاعية التي نَحملها يتضمن فائدة في حفظ النوع البشري. فعندما يَتَعرَّض مجتمع بشري للإصابة بوباء جرثومي أو فيروسي، لن يتم القضاء على جميع أفراد ذلك المجتمع، وسيتمكن بعضهم من النجاة وتستمر الحياة.

 

المصدر:

كتاب "قصة المناعة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

04 يونيو 2023
آخر تعديل بتاريخ