صحــــتك

الهيبارين، دواء قوي لمنع تخثر الدم، والدواء المضاد له

مرضى السكري أكثر عرضة لاضطراب مابعد الجراحة
عمليات القلب المفتوح ودواء الهيبارين

 

لم يكن ِمَن الممكن استخدام مضخة القلب والرئة في عمليات القلب المفتوح دون توفر مادة تمنع تخثر الدم وتجلطه في أنابيب المضخة. ولم يكن مِنَ الممكن استخدام الوصلات الشريانية الصناعية ولا صمامات القلب المعدنية دون وجود الأدوية التي تمنع تخثر الدم وتجلطه فيها. كما كان واضحاً لكثير مِنْ أطباء أمراض القلب أنّ علاج بعض المرضى يحتاج لزيادة سيولة الدم، إذ يعاني بعضهم مِنْ زيادة تخثر الدم وحدوث الجلطات التي يمكن أنْ تمنع وصول الدم إلى بعض الأعضاء الهامة مثل الدماغ والرئتين والطحال والكليتين بل والقلب نفسه. ولكن في بداية القرن العشرين لم تتوفر لديهم الأدوية التي تمنع تخثر الدم وتجلطه، ولا تلك التي تزيد سيولة الدم.

مِنَ التخثر إلى السيولة

نشأ جاي ماكلين Jay McLean (1890-1957) في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية يتيم الأب، وعانى كثيراً مِنْ قسوة زوج أمه، وتربى في ظروف مالية صعبة، زاد في مرارتها الحريق الكبير الذي أودى بمنزلهم وبكل مصادر رزق الأسرة وعملها. لكن ماكلين كان يطمح دائماً لدراسة الطب، واستطاع أنْ يبدأ بذلك في جامعة بيركلي على الرغم من معارضة أهله. أراد ماكلين أنْ يسير على خطى أبيه وعمه في دراسة الجراحة، ولكنه لم يمتلك ما يكفي من المال لمتابعة دراسة الطب، واضطر للعمل في مناجم الذهب وحفر آبار التنقيب عن البترول حتى جمع بعض المال والتحق بجامعة جونز هوبكينز لمتابعة دراسته.

أبحاث طالب الطب

وصل الشاب ماكلين إلى مدينة بالتيمور سنة 1914 وقد بلغ مِنَ العمر 24 سنة. لم يكن لديه قبول رسمي في كلية الطب، ولكنه ذهب إلى هناك رغم ذلك، وفكر أنه ربما يستطيع تدبير عمل في البحث العلمي لمدة سنة ريثما يحصل على قبول في كلية الطب. كان قد قرأ بعض أبحاث البروفسور ويليام هنري هويل William Henry Howell (1860-1945) الذي يعمل في جامعة جونز هوبكينز وأُعجب بها، فذهب من فوره إلى مكتب هويل وطلب منه أنْ يعمل في مختبر أبحاثه، كما طلب أنْ يرشده للعمل في بحث يقوم به وحده، وأنْ يكون مِنَ الممكن أنْ ينتهي مِنَ البحث وينشر نتائجه خلال سنة واحدة فقط لأن ليس لديه ما يكفي مِنَ المال لكي يتابع دراسة الطب بعد ذلك. أراد البروفسور هويل تشجيع الشاب الطموح ووافق على ذلك، وكلّف الشاب ماكلين بإجراء بحث عن المادة التي تساعد على تخثر الدم ووقف النزف عند تعرض الجسم للجروح.

وكان هويل يعتقد أنّ تلك المادة هي مادة دهنية كان قد استحضرها مِنْ دماغ الكلاب. كان المستحضر الذي حصل عليه غير نقي، بل كان مزيجاً مِنْ عدة مواد، وكان تحضيره صعباً، ويفقد فعاليته في تخثير الدم خلال أشهر قليلة أو إذا تعرض للهواء. طلب هويل مِنْ ماكلين أنْ يركز بحثه على تحديد المادة الفعالة التي تخثر الدم في هذا المزيج الدهني الدماغي، وأنْ يُحَضِّرها بشكل نقي ما أمكن، وأعطاه مكاناً صغيراً في مختبر أبحاثه. لم يندمج ماكلين بسهولة مع بقية الباحثين في المختبر لأنهم اعتبروه دخيلاً عابراً وليس عضواً حقيقياً في فريق البحث. وكانت الروائح الكريهة التي صدرتْ عن تجاربه على تلك المواد الدهنية الدماغية تزيد في ابتعادهم عنه وفي عزلته عن الآخرين.

مفاجأة غريبة

تابع ماكلين دراسته للكيمياء العضوية في الوقت نفسه، كما تعلَّم اللغة الألمانية لكي يطلع على الأبحاث المتقدمة التي كانت تُنشر بالألمانية آنذاك. انتهى مِنَ الجزء الأساسي مِنَ البحث خلال ستة أشهر، وطلب مِنَ البروفسور هويل أنْ يتابع بحثه عن المواد التي تساعد على تخثر الدم وتجلطه في أعضاء أخرى مِنَ الجسم مثل الكبد والكُلية ... قرأ في تلك الفترة بحثاً نُشر باللغة الألمانية عن استخلاص مواد دهنية مشابهة مِنَ الكبد والقلب، وبدأ بتحضير هذه المستخلصات مِنَ القلب أولاً.

وكانت المادة التي حصل عليها أقل فاعلية في تخثير الدم مِنْ مستخلصات الدماغ، وكذلك كانت المادة التي حصل عليها مِنَ الكبد. وبدا واضحاً له أنّ هذه المواد الجديدة تختلف عن المواد التي كان يُحضِّرها مِنَ الدماغ. بدأ في استخلاص مواد مماثلة مِنَ الرحم ومِنَ الجلد بينما كان يَختبر فاعلية المواد السابقة ليدرس الفترة التي تفقد فيها قدرتها على تخثير الدم. ولكنه فوجئ أنّ المادة المُستخلَصة مِنَ الكبد بشكل خاص تفقد قدرتها على تخثير الدم بعد فترة قصيرة مِنَ الزمن، بل وتصبح أكثر قدرة على مَنع تخثر الدم وزيادة سيولته! لم يُخبر أستاذه البروفسور هويل في البداية عن هذه الظاهرة لأنها كانت خارج نطاق بحثه، كما أنه أراد التأكد مِنْ هذه الملاحظة قبل مناقشتها مع البروفسور.

بعد إجراء مزيد مِنَ التجارب عن المادة التي كان يُحَضِّرها مِنَ الكبد، تأكد مِنْ فاعليتها في منع تخثر الدم. وذات صباح ذهب إلى مكتب البروفسور هويل وقال له: " دكتور هويل، لقد اكتشفتُ مادة تمنع تخثر الدم ". ابتسم هويل وهو جالس إلى مكتبه وقال: " مِنَ المفترض أنّ المادة المضادة للتخثر هي مادة بروتينية، وأنتَ تعمل في بحث عن المواد الدهنية، فهل أنتَ متأكد؟ أمْ أنّ مادة أخرى ربما تكون قد أفسدتْ تجاربك ؟ " أجاب ماكلين قائلاً: " لستُ متأكداً، ولكنها مادة قوية في تأثيرها على سيولة الدم ومنع تخثره ". وتابع رواية ما حدث: " شكّك هويل كثيراً في استنتاجاتي ونتائج تجاربي، فملأتُ كأساً صغيرة مِنْ دم قطة، ومزجتُ الدم بالمادة المضادة للتخثر التي حصلتُ عليها مِنْ مستحضرات الكبد، ووضعتُها على مكتب البروفسور هويل، وطلبتُ منه أنْ يقيس الزمن الذي يحتاج إليه هذا الدم لكي يتخثر ويتجلط، ولكن الدم لم يتخثر أبداً ..! "

" لم يقتنع هويل بأنني قد اكتشفتُ مادة طبيعية تَمنع تخثر الدم، ولكنه بدأ يهتم بأبحاثي عن المواد التي حضَّرتُها مِنْ مستخلصات الكبد، وبعد أنْ أثبتُّ قدرة هذه المادة على منع تخثر الدم والبلازما في المختبر، قررنا أنْ نختبر هذه المادة بحقنها في وريد كلب حي ". توقفتْ أبحاث ماكلين عند تلك المرحلة حين غادر جامعة جونز هوبكينز في محاولة لمتابعة دراسته في فيلادلفيا حيث قام ببعض الأبحاث عن المواد الدهنية التي تساعد على تخثر الدم. ثم خَدَمَ الجيش الأمريكي في فرنسا حتى سنة 1919 حين عاد إلى جامعة جونز هوبكينز واختص في الجراحة تحت إشراف الجراح الأمريكي الشهير ويليام هالستيد William Halsted (1852-1922). تنقَّل ماكلين في ولايات عديدة وحاول مراراً أنْ يتابع بحثه عن دواء يمنع تخثر الدم، ولكنه أصيب بمرض عضال أدى إلى وفاته سنة 1957 قبل أنْ يكمل ذلك.

 

جاي ماكلين Jay McLean (1890-1957) طالب الطب الذي اكتشف الهيبارين في مختبر البروفسور هويل في جامعة جونز هوبكينز في أمريكا سنة 1916

واستمر البحث...

تابع هويل البحث عن المادة التي مَنَعتْ تخثر الدم، ونشر في سنة 1918 تقريراً ذُكر فيه لأول مرة اسم دواء الهيبارين Heparin الذي كان مادة دهنية تم تحضيرها مِنَ الكبد. وفي سنة 1922 وصف هويل أيضاً طريقة لاستخلاص مادة ذوابة في الماء ذات فعالية مماثلة للهيبارين. أُنتج هذا الهيبارين بشكل دواء، ولكن استعماله ترافق بحدوث أعراض جانبية قوية وخطيرة أحياناً، مما جعل استخدامه محدوداً حتى تقاعد البروفسور هويل وتوقف عن هذه الأبحاث سنة 1931.

 

ويليام هنري هويل William Henry Howell (1860-1945) شارك في اكتشاف الهيبارين في جامعة جونز هوبكينز سنة 1918

أبحاث أخرى في كندا..

كان الباحث الكندي تشارلز هربرت بيست Charles Herbert Best (1899-1978) الذي اشتهر بسبب مشاركته في اكتشاف هورمون الإنسولين، يحاول أيضاً التوصل إلى طريقة ناجحة لتنقية الهيبارين منذ 1928. وبعد سنوات مِنَ البحث والتجارب تمكن مِنَ الحصول على عينات نقية مِنْ هذا الدواء الذي تم تطبيقه لأول مرة في الإنسان سنة 1937، وأصبح مِنَ الواضح أنه دواء فعال في منع تخثر الدم، وأمكن استخدامه بعد ذلك في علاج كثير مِنَ الأمراض التي تترافق بزيادة في تخثر الدم وتجلطه مثل السكتة الدماغية والأزمة القلبية وتخثر الأوردة العميقة. وتم تطويره وتحضيره بكميات كبيرة ورخيصة وأصبح متوفراً بسهولة في كافة أنحاء العالم.

يُستخدم الهيبارين الآن في مختبرات قثطرة القلب عند القيام بكل إجراء تشخيصي أو علاجي، كما يُستخدم في علاج الذبحة الصدرية والأزمة القلبية، وفي كافة عمليات القلب المفتوح لمنع تخثر الدم في مضخة القلب والرئة، كما يُستخدم في معظم العمليات الجراحية التي تُجرى لإصلاح أمراض الشرايين والأوردة، وفي منع حدوث الجلطة في الأوردة العميقة بعد العمليات الجراحية الكبيرة. وهكذا قدّم طالب الطب الشاب بفضل جهده واصراره هدية ثمينة إلى البشرية.

 

الباحث الكندي تشارلز هربرت بيست Charles Herbert Best (1899-1978) الذي اشتهر بسبب مشاركته في اكتشاف الإنسولين، كما تمكن مِنْ تنقية وتركيب الهيبارين سنة 1937

البروتامين.. مضاد الهيبارين

تمكن الأطباء بفضل اكتشاف الهيبارين وتنقيته من استخدامه بنجاح لإنقاذ حياة كثير من المرضى خاصة أولئك الذين يصابون بتخثر مفاجئ في الدم وعند حدوث جلطة قلبية أو دماغية مفاجئة. كما أصبح الهيبارين دواءً أساسياً في عمليات جراحة القلب والأوعية الدموية لمنع تخثر الدم أثناء العملية. ولكن أصبحت الحاجة ماسة لدواء يستطيع أن يعاكس فعل الهيبارين ويعيد إلى الدم قدرته الطبيعية على التخثر بعد انتهاء العملية لئلا يصاب المريض بالنزيف المستمر بسبب زيادة سيولة الدم. لم يكن لدى الأطباء أي دواء يعارض عمل الهيبارين، ولحسن الحظ فإن مدة فاعلية الهيبارين تزول تدريجياً خلال ساعات ولم يكن لديهم من حل سوى الانتظار.

البحث في سمك السالمون..

ولد يوهانيز فريدريك ميشر Johannes Friedrich Miescher (1844-1895) في عائلة مِنَ الأطباء، فقد كان والده وعمه أساتذة لمادة التشريح في جامعة بازل في سويسرا. كان الفتى فريدريك صبياً واضح الذكاء، ولكنه أصبح خجولاً ومنطوياً على نفسه بعد أنْ أصيب بضعف في السمع إثر مرض شديد. لم تمنعه هذه الإعاقة مِنْ دراسة الطب في بازل، ولكنه شعر أنّ ممارسة هذه المهنة لن تكون سهلة عليه مع ضعف سمعه، فتفرغ للدراسة والبحث في الفيزيولوجيا والكيمياء. ركَّز أبحاثه على دراسة التركيب الكيميائي لنواة الخلية الحية، وقاده ذلك أثناء عمله في ألمانيا إلى اكتشاف الحموض النووية في كريات الدم البيضاء. ويُعتبر ميشر أول مَنْ اكتشف الحموض النووية التي تتألف منها الجينات أو المورثات في الكائنات الحية. تابع ألبريخت كوسيل Albrecht Kossel (1853-1927) أبحاث ميشر في ألمانيا، وتوصَّل إلى تحديد التركيب الكيميائي للحموض النووية، ثم حصل على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1910 تقديراً لأعماله الرائدة في علم الوراثة.

حاول ميشر أنْ يحصل على مادة النواة في الخلية الحية مجردة عما يحيط بها عادة مِنَ الهيولى، وعَلِمَ أنَّ ذلك متاح بشكل خاص في الحيوانات المنوية، وبسبب قرب جامعته مِنْ نهر الراين فقد قادته أبحاثه إلى تحليل السائل المنوي في سمك السالمون. وبالفعل وجد في ذلك السائل ضالته في البحث عن الحموض النووية، ولكنه وجد أيضاً نوعاً خاصاً مِنَ البروتينات ذات التفاعل القلوي أَطلق عليها اسم البروتامين. تمكن كوسيل بعده أيضاً مِنْ تحديد بُنيتها الكيميائية واكتشف وجودها في كثير مِنَ الكائنات الحية.

لم يعرف ميشر آنذاك أهمية اكتشافاته، ولم يكن لديه أية فكرة واضحة عن أهمية الحموض النووية في الوراثة، ولا عن فاعلية البروتامين الدوائية. لم تُكتشفْ هذه الأمور إلا في الثلاثينيات مِنَ القرن العشرين حين عُرفتْ فاعلية البروتامين في تعديل تأثير الهيبارين، فاكتشف الأطباء فيه مادة هامة يمكن استخدامها في إعادة قابلية الدم للتخثر بعد إعطاء الهيبارين، كما اكتشف العلماء أنّ إضافة البروتامين إلى الإنسولين تطيل مدة تأثيره في تنظيم سكر الدم، فاستخدموه في تركيب أدوية الإنسولين المديدة التأثير في علاج السكري.

توفي ميشر سنة 1895 نتيجة إصابته بمرض السل قبل أنْ يعرف الآفاق الواسعة التي فتحتها أبحاثه في عِلم الوراثة، وفي علاج داء السكري، وفي تقديم المادة المضادة لفاعلية الهيبارين التي مازلنا نستعملها حتى هذه الأيام.

 

يوهانيز فريدريش ميشر Johannes Friedrich Miescher (1844-1895) عالِم الأحياء السويسري الذي اكتشف البروتامين سنة 1870، كما اكتشف الحموض النووية في كريات الدم البيضاء في 1869 في جامعة توبيجن بألمانيا، ومهد بذلك الطريق لاكتشاف المورثات والجينات.

 

الألماني ألبرت كوسيل Albrecht Kossel (1853-1927) مِنْ أهم علماء الكيمياء الحيوية. تمكن مِنْ اكتشاف التركيب الكيميائي للحموض النووية ومادة البروتامين. حاز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1910 تقديراً لأبحاثه في علم الوراثة

 

المصدر:

كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.