صحــــتك

ماذا حدث لرواد اكتشاف المادة الوراثية؟

الحمض النووي DNA
التركيب الكيميائي للحمض النووي الوراثي DNA

يُعتبر لاينوس بولينغ واحداً من أعظم عشرين عالِماً في التاريخ، فقد شملتْ أبحاثه مجالات واسعة في الميكانيك الكمّي والكيمياء وبُنية البروتينات وعِلم الأحياء والطب. وأّطلق عليه فرانسيس كريك لقب: أبو عِلم بيولوجيا الجزيئات Molecular Biology، وهو العِلم الذي يدرس العلاقة بين بُنية جزيئات المواد العضوية ووظائفها في خلايا الكائنات الحيّة.

كما أنّ أبحاثه الرائدة في دراسة تركيب البروتينات وخضاب الدم في مرض فقر الدم المِنْجَليّ Sickle cell anemia فَتَحَت المجال أمام دراسة الأمراض الوراثية، وفَهْم الطفرات أو التغيّرات العشوائية في المادة الوراثية في الكائنات الحيّة. ففي سنة 1949 نَشَر بولينغ نتائج أبحاثه في بُنية خضاب الدم لدى المرضى المصابين بداء فقر الدم المِنْجَليّ (الذي تُصبح فيه خلايا الدم الحمراء بشكل مِنْجَل الحَصَّاد). وكان ذلك أول اكتشافٍ لمرضٍ بشري يَنتج عن تَغَيّر في بُنية أحد بروتينات الجسم، كما كان أول إثبات يربط بين وراثة الصفات الجسمية بطريقة تشبه تلك التي وصفها الأب العالِم ماندل، وأنّ ذلك التوريث يؤدي إلى تغيّر في بُنية بروتين محدَّد ويسبب المرض. كانت تلك إشارة البدء لانطلاقة عِلم جديد هو عِلم الوراثة الجزيئيّ Molecular Genetics.

عندما بلغ بولينغ الأربعين من عمره، أُصيب بمرض نادر يُسمى داء برايت Bright’s Disease الذي يؤثّر على وظائف الكلية. وساعد في علاجه غذاء خاص وعناية مستمرة قامتْ بها زوجته آفا هيلين ميللر Ava Helen Miller، وربما أدى ذلك إلى اهتمامه بدور التغذية في الوقاية والعلاج. ولكن يبدو أنه بالغَ في ذلك كثيراً عندما تحمَّسَ بشكل زائد لاستخدام جرعات عالية من الفيتامينات في علاج الأمراض النفسية واستخدام الفيتامين سي Vitamin C في علاج أمراض السرطان. لقيتْ دعواته هذه معارضة شديدة من الأطباء بسبب عدم استنادها لدراسات علمية موثقة.

رفَضَ بولينغ الانضمام إلى مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية وسبَّبَ له ذلك كثيراً من الاتهامات، خاصة بسبب آرائه السياسية وتَبنِّيه الدعوة إلى السلم العالمي ونزع الأسلحة الذرّية مع زملائه من أشهر العلماء مثل آينشتاين وبرتراند رسل. حَصَل بولينغ على جائزة نوبل للسلام سنة 1962 تقديراً لجهوده المستمرة في معارضة تجارب الأسلحة الذريّة وانتشارها واستخدامها، ومعارضة جميع الوسائل العسكرية في حل المشاكل الدولية.

وفي كلمته التي ألقاها آنذاك قدَّرَ بولينغ جهود زوجته في جهودها المخلصة لتحقيق السلام، وعبَّرَ عن أسفه لعدم ترشيحها معه للجائزة. كما أدّتْ آراؤه السياسية إلى كثير من المتاعب حتى في المجال العلمي فطُلبتْ منه الاستقالة من رئاسة قسم الكيمياء في مركز كاليفورنيا للعلوم والأبحاث Caltech، فانتقل إلى جامعة كاليفورنيا ثم إلى جامعة ستانفورد. وظل نشيطاً في الحركة الأمريكية ضد حرب فيتنام. حصل بولينغ على 41 جائزة علمية أمريكية وعالمية، ونَشر مئات من الأبحاث العلمية والكتب المهمة في العلوم والإنسانيات والسلام العالمي. ورغم استمراره في تناول جرعات عالية من الفيتامينات إلا أنه أصيب بسرطان البروستات وتوفي سنة 1994.  أوصى بمنح جميع أوراقه ومراسلاته إلى جامعة ولاية أوريغون في أمريكا حيث نال شهادته الجامعية الأولى في الهندسة الكيميائية.

لاينوس كارل بولينغ Linus Carl Pauling (1901-1994) يحمل نموذج التركيب اللولبي الثلاثي للبروتينات. حاز على جائزة نوبل في الكيمياء 1954 وفي السلام 1962

موريس ويلكينز

أما موريس ويلكينز الذي عمل ضمن مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية خلال وجوده في جامعة بيركلي 1944-1945، فقد رفض الحرب واستاء كثيراً من إلقاء القنبلتين الذريتين على اليابان. انضمَّ إلى مجموعة كامبردج المناهضة للحروب. تابَعَ ويلكينز أبحاثه التجريبية التي ساعدتْ على إثبات صحة شكل اللولب الثنائي في تركيب الحمض النووي DNA. وفي سنة 1969 أَسَّس الجمعية البريطانية للمسؤولية الاجتماعية في العلوم وأصبح رئيسها من 1969 حتى 1991. في سنة 2000 أُسِّس مبنى فرانكلين-ويلكينز في الكلية الملكية بلندن تقديراً لجهودهما العلمية المهمة. نَشَر مذكراته سنة 2003 في كتاب عنوانه: "الرجل الثالث في اللولب الثنائي". توفي موريس ويلكينز سنة 2004 بعد شهرين فقط من وفاة صديقه فرانسيس كريك، وقال عنه زميله واطسن: " كان ويلكينز عالِماً ذكياً جداً، وكان يؤمن بأنّ العِلم يجب أنْ يُستخدَم فيما ينفع الناس. وقد نشأ ذلك الإيمان لديه في وقت مبكر بعد أنْ شاهد مآسي الحرب ".

موريس ويلكينز Maurice Wilkins (1916-2004) الحائز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب 1962

 

موريس ويلكينز Maurice Wilkins (1916-2004) مع جهاز تصوير انحراف الأشعة السينية الذي أكد به تجريبياً صحة شكل اللولب الثنائي في تركيب الحمض النووي DNA خلال 1953-1960

فرانسيس كريك

تابَع كريك أبحاثه العلمية في جامعة كامبردج بنشاط كبير خاصة في مجال اكتشاف الشيفرة الوراثية وصُنْع البروتينات في الخلايا الحيّة.  توصَّل مع زملائه إلى كشف أسرار الشيفرة الوراثية وكيفية صنع البروتينات في الخلايا الحيّة بعد أبحاثٍ استمرت حتى سنة 1966. وبعد سبعين عاماً من العمل في جامعة كامبردج، غادرها كريك سنة 1977 إلى الجو الدافئ والسماء الساطعة في جامعة كاليفورنيا.

تابع أبحاثه في عِلم الفيزياء الحيوية لفترة قصيرة هناك، وطبّق خبراته على اكتشاف تركيب الكولاجين، وهي مادة رئيسية في بناء أجسام الكائنات الحيّة. أصبح من المشاهير الذين يكثرون الحديث في كل مجال، وكان جريئاً في طرح أفكار علمية ودينية وفلسفية تثير التحديات. في كتابه عن "الحياة ذاتها، طبيعتها ونشأتها" طَرَحَ فكرة أنّ أصل الحياة على كوكب الأرض جاء في الغالب من الفضاء.

بعد سنة 1980 تَحوَّل اهتمامه نحو مجال جديد هو علوم الأعصاب، وركَّز كامل اهتمامه وأبحاثه على دراسة الوعي والإدراك والمعرفة. في آخر كتبه الذي نُشر سنة 1995 تحت عنوان "الفرضية المدهشة، البحث العلمي عن الروح" طَرَحَ كريك رأيه بأنّ علوم الأعصاب قد بلغتْ درجة عالية من التقدم لكي تبحث عن إجابة للسؤال: كيف يتوصل الدماغ إلى الخبرة الواعية؟ وكيف نتوصل إلى المعرفة والإدراك والشعور؟ لمْ تمتد به الحياة لكي يتوصل للإجابة على هذه الأسئلة، إذ توفي في 28 يوليو سنة 2004 إثر إصابته بسرطان القولون.

فرانسيس كريك Francis Crick (1916-2004) الحائز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب 1962

فرانسيس كريك Francis Crick (1916-2004)

جيمس واطسون

لمْ يبق على قيد الحياة حتى الآن مِنَ الرواد الأوائل الذين وَضَعوا اللَّبِنات الأخيرة في اكتشاف تركيب الحمض النووي DNA سوى الأمريكي جيمس واطسون. بعد أنْ نجح واطسون في صنع نموذج تركيب الحمض النووي DNA مع زميله كريك في لندن، انتقل إلى جامعة هارفارد في أمريكا سنة 1956 حيث تابع عمله هناك في أبحاث الحموض النووية والبروتينات. خلال وجوده في هارفارد، نَشَرَ واطسن عدة كتب مهمة، كان أولها تحت عنوان: "البيولوجيا الجزيئية للموَرِّثات"، وتلاه بكتاب: "البيولوجيا الجزيئية للخليّة الحيّة"، وكتاب: " إعادة تصنيع الحمض النووي DNA" الذي شَرح فيه تقنيات الهندسة الوراثية Genetic Engineering.

ولكن أكثر كتبه أهمية هو: "اللولب الثنائي" الذي نُشر سنة 1968 وكَتب فيه ذكرياته وملاحظاته عن قصة اكتشاف تركيب الحمض النووي DNA وكل ما رافق ذلك من مصاعب، وشخصيات العلماء الذين شاركوا في ذلك الاكتشاف بكل ما فيها من اختلافات وصراعات ومشاعر وأفكار. يَحتل هذا الكتاب المركز السابع في لائحة المكتبة الحديثة لأفضل مئة من الكتب الجديّة غير الخيالية.

انتقل واطسن إلى مختبر ميناء كولد سبرينغ في نيويورك Cold Spring Harbor Laboratory حيث عمل أكثر من أربعين سنة مديراً، ثم رئيساً، ثم عميداً لتلك المؤسسة البحثية الخاصة، واستطاع خلال وجوده فيها أن يُحوِّلها من مختبر صغير إلى مؤسسة عالمية رائدة في التدريس والبحث العلمي في البيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية. إلا أنه اضطر للاستقالة من منصبه فيها إثر تصريح عنصري غير لائق أدلى به سنة 2007، ولمْ تشفع له إنجازاته العظيمة، ولا الاعتذار الذي قدَّمَه عن ذلك التصريح.

 

جيمس ديوي واطسن James Dewey Watson (1928) الحائز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب 1962

 

المصدر:

كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

 

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.