يُعتبر اكتشاف آلية صنع البروتينات في الخليّة الحيّة أحد أهم الاكتشافات العلمية في التاريخ، وذلك لأنه وضَّح كثيراً من المعلومات المهمة في التفاعلات الكيميائية الحيوية الضرورية للحياة، كما اكتَشف العلماء أنّ جميع الحموض النووية في الكائنات الحيّة تتألف مِنَ أُسس خمسة فقط، وأنّ جميع البروتينات الموجودة في الكائنات الحيّة تتألف أيضاً بشكل عام مِنَ الحموض الأمينية العشرين المعروفة، وأنّ الرموز أو الشيفرة الوراثية التي تُترجِم العلاقة بين لغة الحموض النووية ولغة البروتينات هي شيفرة واحدة في جميع الكائنات الحيّة، نباتها وحيوانها، كبيرها وصغيرها، وأن شيفرة نقل الأوامر الوراثية التي تتحكم في صنع البروتينات في الخلية هي أيضاً شيفرة واحدة في جميع الخلايا الحية، وثقوم بهذه الترجمة نوع خاص من الحموض النووية أيضاً.
كما ثبت أنّ شكل جزيء الحمض النووي، وكذلك الشكل الخاص لجزيء البروتين، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخواصه وعمله ووظيفته، وأنّ أي تغيّر مهما بدا طفيفاً في تسلسل المواد التي تدخل في تركيب هذه المواد يؤدي إلى تغيّر جوهري في عملها، وربما أدى إلى الموت. وضَّحت هذه العلاقة الوثيقة بين المادة الوراثية وعملية صنع البروتينات أنّ حدوث طَفْرَة أو تغيّر مفاجئ في تسلسل الحمض النووي DNA في المادة الوراثية يمكن أنْ يؤدي إلى تغير في صنع البروتينات التي تتعلق بهذه الطَفْرَة، وأنّ ذلك قد يؤدي إلى تغيّرات في شكل ونشاط وقدرات ذلك الكائن الحي الذي حدثتْ فيه الطَفْرَة.
عملية صنع البروتينات في الخلية
تبدو آلية صنع البروتينات في الخليّة الحيَّة معقدة وصعبة، ولكنّ تشبيهها باللغة يزيدها وضوحاً، إذ يمكن اعتبار الحموض النووية بمثابة كلمات وجُمَل مكتوبة بلغة تتألف من خمسة حروف، يُستخدَم منها أربعة هي A, T, C, G في كتابة الحمض النووي DNA، وأربعة في كتابة الحمض النووي RNA هي A,U,C,G، ويتألف الحمض النووي الريبوزي الناقل tRNA من هذه الحروف ذاتها أيضاً، إلا أن الرموز التي يحملها ليست أكثر من كلمات تتألف كل واحدة من ثلاثة حروف. كما يمكن اعتبار البروتينات بمثابة كلمات وجُمَل مكتوبة بلغة تتألف من عشرين حرفاً هي الحموض الأمينية، وأنّ الشيفرة الوراثية هي الطريقة التي تتم بها ترجمة كلمات لغة الحموض النووية إلى لغة البروتينات.
مخطط مراحل صنع البروتينات في الخلايا الحية يظهر فيه نَسْخ الحمض النووي الرسول mRNA عن الحمض النووي DNA في نواة الخليّة، وانتقاله إلى الرايبوزوم (الجسيمات الدقيقة) في الهَيولى، حيث تَصل إليه الحموض الأمينية مرتبطةً بالحمض النووي الناقل tRNA، وتصطف بالترتيب الذي يُحَدِّده تسلسل الحمض النووي الرسول لصنع سلسلة البروتين المطلوبة
يمكن توضيح آلية صنع البروتينات بطريقة أخرى هي فكرة الأعلام والحِبال، فكأنما تتخاطب جزيئات هذه المواد مع بعضها برفع أعلامٍ ومدِّ حِبال على سطحها، فعندما يلتقي مثلاً حمض نووي ناقل tRNA يَرفع على سطحه ألوان عَلم معيَّن، ويمدُّ حِبالاً محددَّة، فلا يتوافق معه ولا يرتبط به إلا حمض أميني معين يحمل أعلاماً أو يمد حِبالاً لا تتوافق إلا مع الأعلام والحِبال التي يمدُّها الحمض النووي الناقل، فيرتبطان معاً وينتقلان إلى مكان اللقاء بالقالَب الذي تُصَبُّ فيه الحموض الأمينية، ولا يمكن أنْ تتصل الحموض الأمينية ببعضها إلا وفق الأعلام أو الحِبال المتوافقة التي تمتد بينها، فلا يستطيع حمض أميني طويل وسمين الشكل أنْ ينزل في مكان ضيق وصغير، بل عليه أنْ يترك ذلك المكان للحمض الأميني الذي يتناسب مع المكان المتاح، ويتصل كل حمض أميني بالآخر حسب دوره في السلسلة، وذلك حتى يتم تشكيل السلسلة المطلوبة، ويرتفع عَلَم نهايتها، فلا يضاف إليها أي حمض أميني آخر.
كيف تتم التفاعلات الكيميائية الحيوية في الخلية؟
تتفاعل المواد في التفاعلات الحيوية مع المواد التي تكمّلها وليس مع المواد التي تماثلها. ومن هنا نستطيع فهم الأهمية القصوى لشكل جزيء البروتين في القيام بعمله. لأنّ شكل البروتين والتواءاته يعطيه البُنية المحددَّة والانحناءات والقمم والوديان التي تتناسب وتتكامل بالضبط مع المواد التي يتفاعل معها لتنفيذ التفاعل الكيميائي المطلوب لا غيره، مثلما يتكامل عمل القفل والمفتاح. تتكامل الأَعلام بالأَعلام المتوافقة، والحِبال بالحِبال، وتلتقي الأيدي بالأيدي، والقمم بالوديان، والوديان بالقمم ليتم اللقاء الكامل.
رسم توضيحي يبيّن تفاعل المواد مع الانزيمات لصنع مواد جديدة، وتظهر أهمية التكامل في أشكال المواد المتفاعلة
رسم توضيحي يُظهر أنّ تغيّر شكل المواد المتفاعلة بسبب تَدَخّل مادة مانعة يؤدي إلى عدم حدوث التفاعل الحيوي
المصدر:
كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني
