في خطاب استلامه لجائزة نوبل سنة 1956 قال أندريه كورناند: "كانت قثطرة القلب المفتاح الذي تم وضعه في القفل". وعندما أدار كورناند وزملاؤه هذا المفتاح فتحوا الآمال واسعة أمام المصابين بمرض القلب، وقادوا زملاءهم الأطباء نحو آفاق جديدة في فهم أمراض القلب وتشخيصها وعلاجها. ولعل أسوأ ما يمكن أنْ يواجهه جراح القلب في غرفة العمليات هو وجود تشخيص غير متوقع أو غير صحيح أو غير كامل للحالة التي يقوم بعلاجها جراحياً. ويجب أنْ نتذكر دائماً أنّ قثطرة القلب ما زالت هي الطريقة المثلى التي ترسم لطبيب جراحة القلب خارطة الطريق، التي يجب عليه أنْ يسير عليها ويتبعها للوصول بالمريض إلى شاطئ السلامة والشفاء. فهل يمكن علاج بعض أمراض القلب عن طريق القثطرة؟
البدايات الأولية
ظهرتْ بدايات التطبيقات العلاجية لقثطرة القلب في الستينيات بعد مصادفة ناجحة سنة 1963 على يد طبيب الأشعة تشارلز دوتر بينما كان يقوم بتصوير الشرايين، حين لاحظ أنّ تمرير قثطرة عبر تضيق في أحد الشرايين قد أدى إلى توسيع مكان التضيق، وكانت تلك بداية عصر التداخلات العلاجية الشعاعية الذي تطورت تطبيقاته العلاجية إلى حد كبير هذه الأيام. وفي عام 1964 اخترع دوتر طريقة توسيع تضيقات الشرايين بالتمرير المتكرر لموسِّعات متدرِّجة في الكبر، وبطريقة توسيع الشرايين بالبالون أيضاً.
رائد قثطرة القلب العلاجية
في عام 1966، نشر ويليام راشكيند William J. Rashkind (1922-1986) أبحاثه المهمة في تطبيقات قثطرة القلب العلاجية. كان راشكيند طبيبَ قلبٍ لامعًا بمستشفى الأطفال في فيلادلفيا، حيث قام بتصميم قثطرة وضع في نهايتها بالوناً، واستخدمها بنجاح في إنقاذ حالات خطيرة مِنْ أمراض القلب عند الأطفال. تمكّن راشكيند باستخدام هذا البالون مِنْ توسيع الفتحة الولادية بين الأذينتَين، بحيث يسمح بمرور وبامتزاج أفضل للدم في بعض أمراض القلب الخَلقية المميتة، وتمكن بواسطتها مِنْ إنقاذ حياة كثير مِنْ هؤلاء الأطفال. كما صمّم أيضاً بعد ذلك طرقاً لإغلاق الفتحة بين الأذينتَين وإغلاق القناة الشريانية المفتوحة عن طريق القثطرة القلبية، دون الحاجة إلى عمليات القلب الجراحية في علاج بعض هذه الحالات. ظلّ راشكيند رئيس قسم أمراض القلب عند الأطفال في مستشفى الأطفال بفيلادلفيا حتى وفاته سنة 1986 إثر إصابته بسرطان جلدي خبيث. ويُعتبر راشكيند مؤسس الطرق غير الجراحية في علاج أمراض القلب الخَلقية بقثطرة القلب العلاجية.
ويليام راشكيند Willaim J. Rashkind (1922-1989) مؤسس طرق علاج أمراض القلب عن طريق القثطرة.
توسيع شرايين القلب بالبالون
استُخدمت القثاطر التي وُضع بالون في نهايتها (قثطرة البالون) لتوسيع تضيقات الشرايين في 1964 على يد رائدي تصوير الشرايين الأمريكيين تشارلز دوتر وميلفين جَدكينز، عندما قاما بتوسيع تضيق في شريان فخذي. أما أول توسيع ناجح لشريان في القلب فقد حدث في سويسرا، حيث قام أندرياس رولاند غرونتزيغ Andreas Roland Gruntzig (1939-1985) بذلك لأول مرة في التاريخ. كان ذلك اليوم التاريخي هو 16 سبتمبر 1977، في مستشفى جامعة زوريخ، حيث قام غرونتزيغ بأبحاثه في توسيع شرايين الجسم أولاً، باستخدام قثطرة البالون، ثم صمّم قثطرة بالون خاصة استخدمها في توسيع تضيق طوله 3 سم وشدته 80% في الشريان الأمامي النازل مِنْ شرايين القلب. بعد شهرين مِنْ ذلك، قدّم غرونتزيغ نتائج أبحاثه في الاجتماع السنوي لجمعية القلب الأمريكية، وأثارتْ محاضرته دهشة جميع الحاضرين. خلال السنوات الثلاث التالية قام غرونتزيغ بتوسيع تضيقات شرايين القلب باستخدام قثطرة البالون في 169 حالة في زوريخ، ومِنَ المهم أنْ نعلم أنّ 90% مِنْ هؤلاء المرضى، الذين تم انتقاؤهم بدقة وعناية، قد ظلوا على قيد الحياة بعد عشرة أعوام مِنْ ذلك. وفي الثمانينيات تم تطبيق طريقة غرونتزيغ في توسيع تضيقات شرايين القلب بالبالون عند أكثر مِنْ 300،000 مريض، بما كان يساوي عدد عمليات الوصلات الجراحية لشرايين القلب التي كانت تُجرى آنذاك لعلاج مرض تضيق شرايين القلب في أمريكا.
أندرياس رولاند غرونتزيغ Andreas Roland Gruntzig (1939-1985) أول مَنْ نجح باستخدام قثطرة البالون لتوسيع تضيق شريان في القلب عند الإنسان بتاريخ 19 سبتمبر 1977 في مدينة زوريخ في سويسرا.
الدّعامات ... ومزيد من الإبداع
مرة أخرى كان تشارلز دوتر أيضاً هو أول مَن استخدم الدّعامات (أو الشّبكات) Stents في توسيع الشرايين. صمّم دوتر أولى هذه الدعامات في سنة 1969 واستخدمها في حيوانات التجربة بنجاح. قام تشارلز دوتر مع أندرو كريغ سنة 1963 باختراع الدعامة المصنوعة مِنْ مادة النيتينول التي تتوسع تلقائياً، والتي تُستخدم في صنع الدعامات هذه الأيام. وقدم الفرنسيان جاك بويل Jacques Puel وأولريش سيغوارت Ulrich Sigwart أول دعامة معدنية لتوسيع تضيقات شرايين القلب عن طريق القثطرة عند الإنسان سنة 1986. وفي 1989 تمّ تطوير دعامة بالماز-شاتز Palmaz-Schatz التي تُفتح بالبالون لتوسيع تضيقات شرايين القلب، وما أنْ حلَّ عام 1999 حتى كانت 85% مِنْ إجراءات توسيع شرايين القلب بالبالون تترافق باستخدام الدعامات. كما استُخدمت دعامات بالماز-شاتز المَطليَّة بدواء الهيبارين لتحسين أدائها ومنع تخثرها، وانتكاس حدوث التضيق مِنْ جديد.
الدّعامات المَطلية بالأدوية
مع بداية القرن الحادي والعشرين، استُخدمت دعامة سايفر Cypher Stent المَطليَّة بدواء سايروليموس Sirolimus (أحد أدوية علاج أمراض السرطان)، وفي أول دراسة نُشرت عن هذه الدعامات ظهرتْ نتائج باهرة في نجاحها بمنع عودة التضيق في شرايين القلب التي تمّ توسيعها باستخدام هذه الدعامات المَطليَّة. كانت دعامة سايفر هي أولى الدعامات المَطليَّة التي سُمح باستخدامها في أمريكا، ومع نهاية عام 2004 استُخدمت الدعامات المَطليَّة في 80% مِنْ إجراءات توسيع شرايين القلب عن طريق القثطرة، ومازالت مشكلة انتكاس وعودة التضيق في الشرايين التي تم توسيعها ودعمها هي أصعب مشكلة تواجه هذه الطريقة في العلاج.
تحسينات مفيدة
نجح أطباء قثطرة القلب بالتعاون مع المهندسين في تطوير طرق رائعة لعلاج أمراض القلب عن طريق القثطرة، وأضافوا أساليب جديدة باهرة مثل استخدام أشعة اللايزر، والعنفات الصغيرة الدوارة فائقة السرعة لاختراق وتوسيع شرايين القلب المتضيقة والمتكلسة، والأسلاك المنزلقة، والحفّارات، والبالونات القاطِعة، وبالونات التروية، وقثاطر شَفط الجَلطات، وأدوات الحماية من الخَثرات، وتوسيع الصمام التاجي بالبالون، وزرع الصمام الأبهري عن طريق القثطرة، كما قام أطباء أمراض القلب عند الأطفال بتطوير طرق عديدة لعلاج أمراض القلب الخَلقية عن طريق القثطرة أيضاً، متابعين السير على طريق رائدهم راشكيند، فأضافوا إغلاق الفتحة بين البطينَين عن طريق القثطرة، وتوسيع الشرايين الرئوية، ووضع الدّعامات في الشرايين الرئوية المتضيقة، وطرقاً كثيرة لعلاج أمراض القلب بالقثطرة، لتجنب مصاعب ومخاطر عمليات القلب الجراحية.
المصدر:
كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني