نَعتبر هذه الأيام أنّ فكرة وجود الجراثيم التي تُسَبب الأمراض هي فكرة تكاد تكون بديهية لا تحتاج إلى إثبات، إلا أنّ اكتشاف هذه الحقيقة البسيطة استغرق آلاف السنين، وتَطَلَّبَ جهد كثير من العلماء والباحثين على مر العصور. وربما كان الطبيب اليوناني إيبوقراط أول من عَلَّمَ وكَتَبَ ودَرَّسَ فكرة أنَّ المرض ليس لعنة من الآلهة ولا مسّاً من الجنّ، بل أنّ المرض هو نتيجة لأسباب طبيعية.
اعتَقَدَ أطباء الإغريق والرومان والمسلمين أنّ المرض يَنشأ عن خلل في توازن عناصر أربعة في جسم الإنسان هي: الصفراء والسوداء والبلغم والدم. وظلَّتْ هذه الأفكار أساس التشخيص والعلاج حتى القرن التاسع عشر. كما ظلَّ عوام الناس يؤمنون بوجود أسباب تخيلية أو دينية وراء حدوث الأمراض. فعندما حلَّ طاعون الموت الأسود بأوروبا سنة 1347 وحَصَدَ أكثر من نصف سكان لندن وباريس، لمْ يكن لدى الأطباء تفسير علمي واضح لما كان يحدث من موت وبلاء، واعتقَد كثير من الناس أنّ ذلك المرض هو عقوبة مِن الله لكثرة الخطايا. بينما أَرجَع المنجِّمون سبب المرض إلى نَسَقٍ خاص في مواضع الكواكب.
العالم باستور واكتشاف الجراثيم
لمْ يتوصل العلماء إلى كشف أسباب الأوبئة والأمراض المُعْدِيَة حتى أَثبتَ العالِم الفرنسي الشهير لويس باستور Louis Pasteur (1822-1895) العلاقة السببية بين الجراثيم وبعض هذه الأمراض. وقد روى الدكتور أحمد زكي في كتابه الشهير "قصة الميكروب كيف كَشَفه رجاله" قصة هذا العالِم الفذّ، وشَرَحَ لنا كيف بدأ بحثَه عن الجراثيم باستخدام المجهر لكشف سبب تحوّل عصير العنب إلى خلّ بدلاً مِنَ الخمر، وأَنقذ باكتشافاته هذه صناعة النبيذ الفرنسية من الإفلاس.
أَثبتَ باستور أنّ وجود ونشاط كائنات حيَّة صغيرة جداً لا يمكن رؤيتها بالعين هو سبب حدوث تخمّر النبيذ، وفساد الحليب، وصنع اللبن. اقترح باستور أنّ الجراثيم ربما تُسبب أيضاً بعض الأمراض عند الإنسان والحيوان. لمْ يَتقبل كثير من العلماء والأطباء هذه الفكرة، إذ كان من الصعب عليهم أنْ يَتصَوروا كيف أنّ كائنات ضئيلة صغيرة لا تُرى بالعين يمكن أنْ تقتلنا نحن البشر الأكبر والأقوى منها بما لا يقاس!
العالِم الفرنسي الشهير لويس باستور Louis Pasteur (1822-1895) الذي أثبت أن الجراثيم تسبب الأمراض المُعْدِيَة
روبرت كوخ
في ذلك الوقت، كان العالِم الألماني روبرت كوخ Robert Koch (1843-1910) يعمل أيضاً في برلين على إثبات صحة افتراض أنّ الجراثيم هي التي تُسبب الأمراض، وأَثبتَ في تجاربه على الفئران والثيران سنة 1876 أنّ الجراثيم تُسبب بالفعل بعض الأمراض، مثل داء الجمرة الخبيثة. وعلى الرغم من اتفاقهما في العِلم، إلا أنّ الخلافات السياسية بين بلديهما انعكستْ على سلوكهما في المؤتمرات العلمية، فعارَضَ باستور خلال مؤتمرٍ عُقد سنة 1882 اقتراحَ كوخ عن إمكانية تحضير لقاح ضد جرثومة مرض كوليرا الدجاج! إلا أنّ ذلك لمْ يُحبط كوخ فاستمر في دراساته وأبحاثه، واكتَشَف الجرثومة التي تُسبب مرض السلّ.
حَصَلَ روبرت كوخ على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1905 تقديراً لجهوده في إثبات أنّ الجراثيم تُسبب الأمراض المُعْدِيَة، ووضْعِهِ قواعد عِلم الجراثيم الحديث، ولمْ يحصل عليها باستور لأنه توفي قبل أنْ يَبدأ مَنْحُ هذه الجائزة العالمية. أُطلِق اسم كوخ على مؤسسة للبحث العلمي في برلين، وحظي باستور على تقدير واحترام العالَم، كما أنّ فرنسا أَطلقت اسمه على أهم مؤسسة فرنسية لأبحاث الأمراض الوبائية المُعْدِيَة.