كيف تنتقل الصفات الوراثية من الوالدَين إلى الأولاد؟

كيف تنتقل صفات الوالدين إلى الأولاد؟

لمْ تكن الإجابة على هذا السؤال سهلة، واحتاج الأمر إلى أبحاثِ كثيرٍ مِنَ العلماء امتدَّتْ على مدى أكثر مِنْ نصف قَرن قبل أنْ يتوصلوا إلى معلومات كافية للإجابة على هذا السؤال. فكان عليهم أولاً أنْ يُحدّدوا الدَّور الذي تلعبه الصّبغيات في نواة الخليّة أثناء انقسام الخلايا، وأنْ يَعرفوا البُنيَة والتركيب الكيميائي الخاص لهذه الأجسام الملوَّنة، وأنْ تَتضِح لهم أهمية الجينات "المُوَرِّثات" في نَقل الصفات الوراثية عبر الأجيال.

عملية التلقيح، اندماج النطفة بالبويضة

كان أوسكار هيرتويغ أول مَنْ وصف اندماج نَواة النطفة بنَواة البويضة في الخلايا التناسلية لِحيوان قنفذ البحر حوالي سنة 1882، ووَصَفَ حدوث ذلك أيضاً في حيوانات أخرى، مثل الضفادع. وأكّد أن ذلك يحدث في النباتات أيضاً العالِم البولوني إدوارد ستراسبورغر Eduard Strasburger (1844-1912) في أواخر القرن التاسع عشر.

اتَّضحتْ أهمية الصّبغيات داخل نَواة الخليّة في نَقل الصفات الوراثية سنة 1904على يَد ثيودور بوفري Theodor Boveri (1862-1915) بعد أنْ رَبَطَ بين اكتشاف الانقسام الاختزالي في الخلايا التناسلية الذي وَصَفه وايزمان، بنتائج دراسة ماندِل في انتقال الصفات الوراثية. توافَقَ ذلك مع استنتاجات الطبيب وعالِم الوراثة الأمريكي والتر ستانبورو صاتن Walter Stanborough Sutton (1877-1916) في مقالته المهمة التي نُشرتْ في 1903 عن "الصّبغيات في الوراثة" فيما أصبح يُعرف بنظرية بوفري- صاتن في الصّبغيات، وهي النظرية التي قَبِلها معظم علماء الأحياء في ذلك الوقت.

كان صاتن طالباً في جامعة كولومبيا عندما لاحَظ أنه أثناء انقسام الخلايا التناسلية الاختزالي توزّعُ الصّبغيات بين الخلايا التناسلية (النطاف والبويضات) بنسبٍ تتطابق مع نِسب توزّع الصفات الوراثية التي سَجَّلها ماندِل. وهكذا توصَّل صاتن بشكل قاطِع، في أبحاثه الوراثية التي أجراها على حشرات الجندب، إلى أنّ مُنتِجات الوراثة Analgen التي افترَضَ كورينز وجودها في أواخر القرن التاسع عشر توجَد في الصّبغيات داخل نواة الخليّة التناسلية، وأنّ توزّع الصّبغيات يفسِّر نتائج دراسات ماندِل في انتقال الصفات الوراثية.

اكتشاف الجِينات (المُورِّثات)

في سنة 1909 أَطلَق عالِم النباتات الدنماركي ويلهِلم لودفيغ يوهانسون Wilhelm Ludvig Johannsen

(1857-1927) اسم: المُوَرِّثات أو الجينات Genes، (مشتقةً مِنَ اللغة اليونانية، وتعني المُوَلِّدَة)، على مُنتِجات الوراثة أو الوحدات التي تَنقل الصفات الوراثية. ومنها استخدَم العلماء اصطلاح: المادة الوراثية Genome في وَصف مجموع المادة الوراثية في الخليّة.

كما لاحظَ يوهانسون في دراساته النباتية أنّ الكائنات الحية المُستَنسَخَة مِنْ بعضها، والتي تَحمل مادةً وراثية متماثلة، قد لا تكون متماثلة في الشَّكل والسِّمات الظاهرة عليها إذا نشأت في ظروف بيئية مختلفة. وفي سنة 1911 كان يوهانسون أول مَنْ استخدَم اصطلاح: النَّمَط الوراثي Genotype في وَصف مجموع الصِّفات الوراثية التي يَحملها الكائن الحيّ في مادّته الوراثية، واصطلاح: النَّمَط الظاهري Phenotype في وَصف السِّمات التي تَظهَر بالفِعل على الكائن الحيّ.

أَثبتَ الأمريكي توماس هَنت مورغان Thomas Hunt Morgan (1866-1945) في جامعة كولومبيا صحة نظرية بوفري- صاتن في الصّبغيات بعد أن نشر أبحاثه الشهيرة على ذبابة الفواكه التي قام بها خلال الفترة 1905-1915. تابَعَ مورغان أبحاثه، وأَثبتتْ دراساته وأبحاث طلابه مِنْ بعده أنّ الجِينات (المُّوَرِّثات) مَحمولة بالفعل على الصّبغيات، ووَصَفوا ارتباط بعض الجِينات ببعضها في الصّبغيات، وظاهرة ارتباط وتَبادل الصّبغيات أثناء انقسام الخلايا.

نال مورغان جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب سنة 1933 تقديراً لأبحاثه المهمة في عِلم الوراثة. أَكَّدتْ نظرية بوفري- صاتن وأبحاثُ مورغان على أهمية الصّبغيات في نَقل الصّفات الوراثية، ولكن كيف تقوم بذلك؟ وما هي تلك الطبيعة الخاصة للجِينات التي تجعلها قادرة على نَقل الصّفات الوراثية؟ وكيف يَحدث ذلك؟ لم يتمكن العلماء من معرفة ذلك إلا بعد اكتشاف الحموض النووية الموجودة في الصّبغيات، واكتشاف تركيبها الكيميائي، والشّيفرة الوراثية التي تَحملها وتَنقلها من الوالدَين إلى الأولاد.

 

الأمريكي توماس هَنت مورغان Thomas Hunt Morgan (1866-1945) الذي أثبتت أبحاثه أهمية الصبغيات في الوراثة

 

المصدر:

كتاب "قصة الوراثة، كيف كشفها رجالها" للدكتور عامر شيخوني

30 مارس 2023
آخر تعديل بتاريخ