صحــــتك

عن الاحتياج للحب.. والطريق إلى الاعتمادية

الاحتياج للحب
في واحدة من أهم تجارب علم النفس، قام بعض العلماء بوضع مجموعة من صغار القرود الرضّع في قفص ومعهم مجسمان لقردة أُمّ، واحدة من سلك لكنها تفرز اللبن، والأخرى من الفرو لكنها لا تفرز لبناً، وقاموا بمراقبة سلوك القرود، وإلى أي النموذجين سينجذب الصغار، وكانت نتيجة التجربة هي التصاق القرود طيلة الوقت بالقردة الفرائية، وعدم الذهاب للقردة الأخرى إلا عند الاحتياج للبن فقط.

هذه التجربة كانت فارقة في أهمية احتياجنا النفسي، وبشكل خاص الدفء والحب، ولأننا نخلط كثيراً بين معاني القبول والرضا، والقبول والحب، كان من المهم أن تكون مقالة الاحتياج للقبول سابقة للاحتياج للحب، والفارق هنا أن القبول حق فطري، أما الحب فهو احتياج من حقه الإشباع.

نحن نحتك بالحب منحاً واستقبالاً في ثلاث دوائر، وهي الذات والله والآخر، لكننا في مرحلة المهد تكون هذه الدوائر متحدة لدينا، فإدراك الذات المستقلة يأتي متأخراً عن الولادة نسبياً، ويكون مقدما الرعايا في محل الرمز الإلهي God figure، ولذا فإن احتكاكنا بدائرة المهد تضع آثارها على الدوائر الثلاث المنبثقة عنها، والتي سنختبرها بقية العمر، ولذا تسمى هذه المرحلة بمرحلة الحب الأساسي، ولذا يؤكد "أدلر" أن الطفل يتلقى معناه الخاص عن الذات والحياة في حضن أمه وعينيها.

إن الطفل الذي يشبع لديه احتياج الحب ينمو مؤمناً بأهليته للحب، أما الطفل الآخر فإنه سيسعى لاستجداء الحب، أو كما يصفها أحدهم "سيكتسب الحب بعرق جبينه" من خلال أنماط مريضة لا تزيده إلا جوعاً للحب وطلباً له، وتجد سلوك الشخص الجائع للحب ظاهراً في محاولاته إرضاء الآخرين، وأن يكون دائماً لطيفاً ومعطياً، والحقيقة أن هذا الشخص غير قادر على استقبال الحب إلى أن يصدق أن ما يسعى إليه في الخارج يمكنه الحصول عليه في الداخل، أن يجد الحب داخله ويسدده لنفسه.

الحب الذي أعنيه هنا هو الحب الحر، الذي يساعدنا كي نكون، وليس حب التملك والسيطرة، حتى من أقرب الناس إلينا، والفرد الذي يتعرض للحرمان من الحب في الطفولة تظهر لديه اضطرابات التعلق، والتي تسمى بالاعتمادية بنوعيها الإيجابي (الاعتمادية الصريحة)، وهو التعلق المريض بالأشخاص (أو الأشياء)، وهو يظن أن سلامه الداخلي قائم على الاتصال بالآخرين، أو السلبي ويظهر في التحاشي والتجنب أو التمرد والتظاهر بالاستغناء عن الآخرين و(لا شيء يهم، ولا أحد سيفرق)، وما هي إلا ردة فعل عكسية تجاه جوع شديد للحب.

والصورة النمطية لهذا الاضطراب تظهر في شخص يتعلق بآخر بشكل مرضي، ويعتمد سلامه النفسي على رسالة أو مكالمة أو لقاء معه، وما إن تتأخر هذه (الجرعة) من الاتصال حتى يتصاعد داخله القلق، على الرغم من إحساسه الداخلي بالألم والغضب لأسره داخل هذه العلاقة، وهذا الغضب يتم كبته لاشعورياً ليتم تحويله إلى مزيد من القلق الذي لا يشبع إلا بجرعة اتصال، أو الصورة العكسية بالتحاشي والتجنب والمقاطعة. وبالتدريج يبدأ في الشعور بالغيرة تجاه أي آخر يشاركه الاهتمام والحب من نفس الشخص، لشعوره العميق بالجوع العاطفي، وأنه لو شاركه أحد في مصدر له سينتهي الأمر بالجفاف.! هل رأيت أحدهم من قبل؟

الصورة السلبية (المتجنبة أو المتمردة) من الاعتمادية قد تميل إلى العدوانية، في صورة رفض النصح أو النقد لأن قبولهما - في نظره - ضعف، والضعف يعني له الجوع والاحتياج، فهو يقاوم الانقياد، ويدافع بشدة من أجل رأيه لأن موافقة الآخرين - بالنسبة له - خضوع وموت. وقد يكون لديه الحافز لخوض واختلاق المشكلات لظنه أن لديه الجواب والقدرة على الحل بنفسه لا بالآخرين، وفي ذلك يقول رولو ماي "نحن نعرف الكبر والخيلاء والنرجسية بوصفها الحاجة القهرية للحصول على المديح والحب!". 

ولذا ترى كارين هورني أن الحرمان من الحب يحركنا في ثلاثة اتجاهات تختصر هذه المقالة، وهي التحرك المرضي تجاه الناس Dependance، أو التحرك ضد الناس Aggression، أو التحرك بعيداً عن الناس Avoidance.

هناك ثلاثة شعارات مرفوعة هنا: الاعتمادي (إذا أرضيت الناس فسأحصل على حبهم)، والثاني المتحدي (إذا كنت معتداً بنفسي وقوياً ومميزاً فسيعجب بي الناس ويحبونني)، والثالث المتحاشي (إذا ابتعدت عن الناس واجتنبتهم فأنا في أمان).

ولا شك أن الحب يصلح كمعيار لقياس النضج الإنساني، فمن طفل يحتاج إلى الحب، إلى راشد يتبادل الحب، إلى والد يمنح الحب. وهكذا لابد أن يتم التحقق، فالبعض قد يسارع إلى الوالدية الزائفة فيعطي من خزان حب فارغ، ويظهر عجزه في إحساسه الدائم أنه يعطي ولم يأخذ، وقد يعاير الآخر بذلك، ولذا لا بد من إشباع الطفل الداخلي أولاً قبل منح الحب، وإن وجدت الحرمان في الطفولة من الحب، فعليك أن تبحث عن مصدر الحب داخلك وتوجهه لنفسك أولاً.

وهنا يقول الأب هنري نوين والذي تعرّض في طفولته للحرمان من الحب، والذي عانى منه لبقية حياته: "في داخلك حفرة عميقة، كما الهوة بلا قرار، هي حفرة احتياجك للقبول والحب، وسيكون اختبارك دوماً بين الهروب من ألمك أو الابتلاع فيه. هناك انفصال قد حدث داخلك بين مركز حفرتك ومركز الألوهة الذي يصلك بالله، فتوقف عن البكاء خارجاً والصراخ إلى الناس الذين تظنهم سيسددون احتياجاتك في الخارج، واصرخ داخلك في البقعة التي تصلك بالسماء، وهناك ستجد نفسك مقبولاً ومحمولاً من الله". 

اقرأ أيضاً:
احتياجات الطفل.. الطريق إلى السواء النفسي
احتياجاتنا البسيطة ومركب النقص
نفسك الحقيقية ونفسك المزيفة
عن الاحتياج للحضن
هل تريد أن تخسر ابنك؟.. عن الإساءة النفسية نتحدث

استشارات ذات صلة:

حرمان في الطفولة.. أنت الآن مسؤولة
أنا ضحية.. أحب زوجي وتعيسة في زواجي

المصادر:
هنري نوين، صوت الحب الداخلي
آخر تعديل بتاريخ
02 أبريل 2017

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.