صحــــتك

اضطراب الشخصية الحدية من واقع البيئة العربية

انتحار
على الرغم من الزيادة الملحوظة في وعي المجتمع العربي بشأن الأمراض النفسية في الأعوام الأخيرة، وتحرك نظرة المجتمع إلى المريض النفسي كشخص يعاني وبحاجة إلى المساعدة والدعم بدلا من معاملته كشخص منقوص الحقوق، ولكن يبقى ذلك الوعي قاصراً على الاضطرابات الشائعة كالاكتئاب والفصام واضطرابات القلق، في حين تبقى اضطرابات الشخصية كمنطقة غامضة بالنسبة لمعظم الأشخاص العاديين، بل وأحيانا بعض المتخصصين.

وربما يعود سبب ذلك الغموض إلى صعوبة التشخيص أحيانا بالإضافة إلى قصور وسائل المساعدة، فالمنطق يؤكد ميل المتخصصين إلى تشخيص المشكلات التي يستطيعون حلها والتعامل معها. وتكمن صعوبة تشخيص اضطرابات الشخصية في احتياجها إلى وقت طويل نسبيا، وربما إجراء بعض القياسات النفسية وأحيانا مقابلة بعض المحيطين بالعميل من أجل الوصول إلى تشخيص دقيق ومن ثَم بدء العلاج.

ونتناول هنا واحداً من أكثر اضطرابات الشخصية شيوعا، ولحسن الحظ أيضا أكثرها استجابة للعلاج طبقا للأبحاث العلمية المنشورة أخيرا، وهو اضطراب الشخصية الحدية. 

وسنحاول قدر المستطاع تقريب الصورة لذهن القارئ العربي من واقع الممارسة الإكلينيكية في مصر.

* ما هي الشخصية؟

ولكن لنبدأ أولا بتعريف للشخصية، وهي بأكثر التعريفات تبسيطا مجموعة الأنماط السلوكية والمعرفية والوجدانية التي يعتمد عليها كل فرد، أي كيف يفكر الشخص؟ وكيف يتصرف ويتعامل مع المشكلات ويعبر عن مشاعره في معظم الوقت؟ والسؤال هو متى يتحول هذا النمط لنمط مرضي أو ما يطلق عليه اضطراب شخصية؟

* متى يتحول هذا النمط إلى اضطراب شخصية؟

عندما يبدأ هذا النمط في إعاقة الشخص عن الحياة بشكل طبيعي ومنعه من التكيف مع البيئة المحيطة، وفي أحيان أخرى خلق صعوبة للبيئة المحيطة في التكيف معه.

وتنقسم اضطرابات الشخصية طبقا للتصنيف الدولي للاضطرابات النفسية إلى ثمانية أنماط محددة، إضافة إلى نمط تاسع وهو "اضطراب الشخصية غير المحدد".

وتشير معظم الإحصاءات إلى أن نحو واحد من كل عشرة أشخاص يعاني من أحد اضطرابات الشخصية القابلة للتشخيص.

بينما يرى البعض أن لفظ "اضطراب شخصية" في حد ذاته يعتبر هجومياً أو تصنيفياً لشخص قد يكون فنانا مرهفا أو مهندسا ناجحا أو أبا رائعا في كثير من الأحيان، ولوجهة النظر تلك كثير من الوجاهة، فلكي نُعَرّف اضطراب الشخصية لا بد أولا أن نتفق على تعريف الشخصية الطبيعية، ويعد هذا من أكثر التعريفات جدلا، فمن منا لا تحتوي شخصيته على سمات نرجسية أو وسواسية أو قد يعاني من الحساسية المفرطة للمشاعر في بعض الأحيان؟

وعلى الرغم من أن اضطراب الشخصية الحدية لا يعد أكثرها انتشارا حيث يبلغ معدل انتشاره طبقا لمعظم الإحصائيات 1.5 إلى 2% من العامة، ولكنه يعد في الوقت ذاته من أكثرها خطورة واستنزافا لموارد المنظومة الصحية، نظرا لاضطرار عدد كبير ممن يعانون من هذا النوع من المشكلات إلى التردد على أقسام الطوارئ أو عيادات المتخصصين إما من أجل محاولات الانتحار المتكررة، أو نوبات الغضب والحزن الشديدة التي يمرون بها، وأحيانا أخرى لمحاولة البحث عن حل لمشاكل العلاقات غير المستقرة والتي تسبب للعميل والمحيطين به كثيرا من الضيق.

ولا توجد حتى الوقت الحالي الكثير من الإحصائيات العربية لمن يعانون من هذا الاضطراب، باستثناء دراسة إماراتية أوردت وجود 3.8% ممن يترددون على مراكز الرعاية الصحية الأولية يعانون من اضطراب الشخصية الحدية.

* كيف تتطور الشخصية الحدية؟ (النظرية النفس اجتماعية The Biosocial Theory)

تكمن الصعوبة في التعامل مع من يعاني من اضطراب الشخصية الحدية سواء من المحيطين أو حتى المتخصصين، حيث يظهر الشخص بحالات مختلفة تراوح بين الصحة والمرض تبعا لحالته النفسية والذهنية والظروف المحيطة، ويعد هذا أحد أسباب وصفها بـ"الحدية"، حيث يرى بعض علماء النفس أن هؤلاء الأشخاص يقفون على الحد الفاصل بين الصحة والمرض، أو الطبيعي وغير الطبيعي، حسب الضغوط والظروف المحيطة.

في حين ترى بعض المدارس الأخرى أنهم على الحد بين العصاب والذهان أو غيرهما من التعريفات، ولكن التفسير الأول هو الأقرب لنا من خلال الممارسة العملية والأكثر قبولا لمن يعانون من اضطراب الشخصية الحدية.

وقد تلاحظ عزيزي القارئ استخدامي للفظ "العميل" بدلا من "المريض" منذ بداية المقال، ولهذا هدف محدد، وهو الإشارة إلى أن من يعاني من اضطراب الشخصية الحدية لا يعتبر مريضا بالمعنى المفهوم طوال الوقت، حيث يعتمد مدى تكيف الشخص في كثير من الأحيان على البيئة المحيطة.

فحينما يحاط هذا الشخص ببيئة "حاضنة" (Validating Environment)، بمعنى أنها تراعى الحساسية الوجدانية المفرطة لديه، وتحاول احتواءها بقدر كبير من التفهم، يتمكن العميل من التعامل مع البيئة بقدر عال من الكفاءة، بل ويبرز مواهبه وقدراته المميزة النابعة أحيانا من حساسيته الفائقة.

ولكن حينما يتعرض العميل لبيئة "غير حاضنة" (Invalidating Environment)، إما لكونها تتعامل مع تعبيره القوى عن المشاعر بشكل عنيف، أو بفتور شديد وعدم انتباه، أو حتى في بعض الأحيان بشكل طبيعي، ولكنه لا يراعي الطبيعة الخاصة لهذا الشخص وتعامله مع المشاعر، فإن الشخص يبدأ في التصرف بطرق مختلفة قد تميل إلى الجانب المرضي، مثل الانفعال الشديد، أو السلوكيات الاندفاعية كتعاطي المكيفات، أو العلاقات الشخصية المندفعة، وأحيانا السلوكيات الانتحارية أو غيرها من أنماط إيذاء النفس.

ولكن يبقى المعيار الفاصل دوما هو وجود تلك السمات بشكل شبه مستمر لفترات تعود غالبا إلى سن المراهقة وربما الطفولة، بالإضافة إلى تسبب تلك السمات في عجز الشخص عن القيام بأدواره الأساسية في الحياة، والمعاناة النفسية لفترات طويلة قد تصل به في كثير من الأحيان إلى حافة الانتحار.

* تطور النظرة إلى اضطراب الشخصية الحدية

تميل بعض الدراسات الحديثة المؤيدة بأبحاث متعددة وأدلة بيولوجية وتشريحية عن طريق الأشعة التشخيصية والوظيفية إلى حل معضلة تسمية الاضطراب، حيث تتجه إلى تسميته "اضطراب خلل التحكم في المشاعر المستمر" أو "Pervasive emotion dysregulation disorder"، ومن هنا يمكن فهم معظم الأعراض بصورة أكثر منطقية. وللاطلاع على قائمة الأعراض يمكن العودة لمقال "الشخصية الحديّة .. كره الذات وإيذاء النفس" المنشور في الموقع نفسه، حيث سيتعرض المقال الحالي لمحاولة فهم الأعراض وعلاقتها بخلل التحكم في المشاعر، ومن ثم كيفية العلاج.

ترى مارشا لينيهان وفريق معاونيها بمركز الأبحاث والعلاجات السلوكية بجامعة واشنطن أن الخلل الأساسي لدى من يعانون من اضطراب الشخصية الحدية هو الخلل في التحكم في المشاعر، حيث يعاني الشخص من حساسية مفرطة للمؤثرات الوجدانية، نظرا لأسباب بيولوجية أو وراثية في معظم الأحيان، ما يؤدي إلى خلل في التعبير عن المشاعر بصور مختلفة، مثل:
  1. وجود مشاعر سلبية أكثر من المعتاد في معظم الوقت كحالة وجدانية عامة.
  2. الاستجابة لمؤثرات بسيطة قد لا يلاحظها الشخص العادي.
  3. التعبير عن المشاعر بصورة مبالغ فيها إما من حيث كمية الانفعالات أو مدتها.
  4. الحاجة إلى وقت أطول من المعتاد للعودة إلى الوضع الطبيعي أو الحالة المزاجية المعتدلة.

وتراوح أكثر أعراض الاضطراب استمرارية بين كونها تعبيرات مختلفة عن المشاعر القوية، أو الحالات الوجدانية المختلفة، أو محاولات للتحكم في تلك المشاعر بطرق غير فعالة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى زيادة حدة المشاعر وتصاعدها بدلا من السيطرة عليها، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى استمرار العميل في حلقات متتالية من الأزمات والتصرفات الناتجة عن المشاعر والآلام النفسية بشكل مرهق، يستنزف العميل ومن حوله.

* قصة من الواقع

هنا ربما نتوقف قليلا مع قصة لإحدى العميلات عند بداية العلاج قد تقربنا من الصورة أكثر فأكثر. "س"، فتاة متفوقة علميا وتتمتع بذكاء ملحوظ ومتفوقة على زملائها منذ الصغر، وهي الابنة الصغرى لأسرة مترابطة مكونة من والدين يعملان بوظائف مرموقة، وأشقاء أكبر أتموا تعليمهم منذ بضع سنوات.

"س" تهوى القراءة والموسيقى واللغات الأجنبية، لديها دائرة واسعة من الأصدقاء، ولكنها تصف نفسها بالشخص المحاط بالكثيرين ولكنه دوما يشعر بالوحدة.

للوهلة الأولى تلقى المعالج اتصالا هاتفيا قلقا من والد "س" يطلب لقاءه على وجه السرعة لاستشارته بخصوص ابنته ومشاكلها المتكررة أخيرا، والتي انتهت بفصلها من الجامعة بعد التحاقها بها بشهر نتيجة شكوى زملائها من تصرفاتها الغريبة والمنطوية أحيانا وعصبيتها الشديدة وتدخينها وتعاطيها للكحوليات، بما في ذلك من تحد واضح لقواعد السكن بالجامعة.

عندما التقى المعالج بـ"س" للمرة الأولى كانت تتحدث بصعوبة، وتعاني من مزاج سيئ للغاية، وصداع مزعج بعدما نامت لمدة 24 ساعة متواصلة نتيجة تناولها 10 أقراص من مضاد الاكتئاب الموصوف لها، وذلك بعدما علمت بفصلها من الجامعة، ما يعني أنه "لا يوجد معنى للحياة بعد ذلك"، حسب وصفها.

"س" كانت دوما طفلة ذكية متفوقة، ولكنها مختلفة، بحسب وصف الأهل، مزاجها متقلب بسهولة، وكثيرا ما كانت تعامل معاملة خاصة لأنها الابنة الصغرى، علاوة على كونها الفتاة الوحيدة بين أشقائها.

الحياة المبكرة في بيئة ريفية نسبيا جعلتها شخصا مخالفا للتوقعات في معظم الوقت، رغم تعرضها للتحرش الجنسي في طفولتها الذي لم تصرح به لأهلها إلا أخيرا، إلا أنها كانت دوما طالبة متميزة إلى الحد الذي أهلها للانضمام لمدرسة للمتفوقات، اضطرتها للانتقال للعيش بمفردها في إحدى المدن الكبيرة.

وهنا كانت بداية التحولات، التناقض بين التربية الدينية المتحفظة نسبيا، والتعامل مع أقران من بيئات وخلفيات اجتماعية مختلفة، محاولة الحفاظ عل التميز وسط مجموعة من المتفوقات والمنافسة الشديدة، التعرض للتغيرات السياسية والاجتماعية بمصر خلال السنوات الماضية، ومحاولة البحث عن موقف متمرد ومستقل من قارئة نهمة وشخصية قيادية منذ الصغر.

البحث عن الجديد والمختلف كان شغفها الدائم، بداية من تجربة الكحوليات والمكيفات والبحث عن علاقات بالجنس الآخر، وإن كانت طبيعية بالنسبة لسنها، ولكنها مرفوضة بشكل قاطع من الأسرة المحافظة، ووصولا إلى تساؤلات مستمرة عن الدين والإله والجدوى من الحياة ذاتها وربما الميول الجنسية أحيانا.

كل هذا أدى إلى صدامات مستمرة مع الأهل وإدارة المدرسة والأصدقاء القدامى. وأدت تلك الصدامات إلى محاولة انتحار خطيرة بالقفز من الدور الثاني، ومحاولات شبه انتحارية متعددة باستخدام آلات حادة، وذلك فقط عندما تشعر بالغربة، على حد وصفها، أو عدم جدوى الحياة في بيئة لا تتفهم طبيعتها المختلفة، ولا تؤهلها لمتابعة البحث عن حلمها واستخدام مواهبها المتعددة.

المصادر
 Linehan, M. M. (1993). Cognitive Behavioral Treatment of Borderline Personality Disorder. New York: Guil­ford Press.

World Health Organization. The ICD-10 Classification of Mental and Behavioural Disorders: Clinical Descriptions and Diagnostic Guidelines. Geneva, Switzerland: World Health Organization; 1992.

Crowell S.E, Beauchaine T.P, and Linehan M.M. A Biosocial Developmental Model of Borderline Personality: Elaborating and Extending Linehan’s Theory. Psychological Bulletin, 2009, Vol. 135, No. 3, 495–510.

آخر تعديل بتاريخ
13 أغسطس 2021

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.