يتحكم الجهاز العصبي بطريقة عمل الجسم، لكن ما العوامل التي قد تؤثّر على جهازنا العصبي؟ تعرّف في هذا الحوار لموقع صحتك على أعراض وأسباب وطرق علاج الاضطرابات العصبية مع د. مانويلا باوني.
ما الاضطرابات العصبية وما أنواعها؟
تشير المراجعة المنهجية بعنوان "معدل الإصابة وانتشار الاضطرابات العصبية في دولة الإمارات العربية المتحدة" إلى أن الدولة، باعتبارها من البلدان ذات النمو السريع، تَشهد تغيرات ديموغرافية وصحية ملحوظة. فمَع ارتفاع متوسط العمر المتوقع، وزيادة معدلات زواج الأقارب، وتبنّي نمط الحياة الغربي، يُتوقع أن يرتفع العبء الناتج عن الاضطرابات العصبية بشكل كبير خلال العقود المقبلة. ولهذا، يصبح من الضروري تعزيز الوعي المجتمعي بهذه الحالات، وتعلُّم كيفية التعرّف على أعراضها المبكرة، لضمان التدخل الطبي في الوقت المناسب والحد من المضاعفات المحتملة.
عندما تؤثّر حالة مرَضية على الجهاز العصبي، سواء كان الدماغ أم الحبل الشوكي أم الأعصاب، يُطلق عليها اضطراب عصبي. وتتفاوت هذه الاضطرابات في شدتها من خفيفة إلى شديدة، وتؤثّر على ملايين الأشخاص حول العالم. تختلف الأعراض بشكل كبير، فقد تظهَر بشكل مفاجئ وحاد خلال نوبة مرَضية، أو تتطور تدريجيًا كجزء من حالة مزمنة ومتقدمة. وتنجم الاضطرابات العصبية عن مجموعة من العوامل، بما في ذلك العوامل الوراثية، الإصابات الجسدية، العدوى، أو اضطرابات في الجهاز المناعي.
هناك أنواع عديدة من الاضطرابات العصبية بعضها يرتبط بالنمو العصبي، مثل اضطراب طيف التوحد (ASD)، واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، والشلل الدماغي. في حين أن البعض الآخر، مثل التهاب السحايا والتهاب الدماغ، يمثل حالات التهابية تصيب الجهاز العصبي مباشرة. وتشمل القائمة أيضًا متلازمات الألم المزمن مثل الشقيقة (الصداع النصفي)، إضافة إلى الأمراض العصبية التنكسية مثل ألزهايمر وباركنسون.
في مثل هذه الحالات، يلعب الأخصائي النفسي دورًا جوهريًا يساعد المرضى في التكيف النفسي، وضبط التوتر والقلق، وتطوير آليات فعالة للتعامل مع الحالة. كما يقدّم دعمًا نفسيًا ومعنويًا بالغ الأهمية لأفراد الأسرة وفريق الرعاية، مما يساهم في تحسين جودة حياة المريض والبيئة المحيطة به.
ما أسباب الاضطرابات العصبية؟
نظرًا لتعدد أصول الاضطرابات العصبية، فإن أسبابها تختلف بشكل كبير أيضًا. من بين الأسباب الأكثر شيوعًا: الصدمات، والعدوى، واضطرابات المناعة الذاتية، والأمراض التنكسية، والعوامل الوراثية، والسموم. على سبيل المثال، قد تؤدي إصابة الدماغ أو الحبل الشوكي أو الأعصاب إلى حالات مرَضية مثل إصابة الدماغ الرضية (TBI)، وقد تسبب العدوى الإصابة بالتهاب السحايا. وفي بعض الحالات، يهاجم الجسم نفسه عن طريق الخطأ، كما هو الحال في اضطرابات المناعة الذاتية. تلعب العوامل الوراثية دورًا عندما تُورّث الحالة من الوالدين، مثل مرض الحثل العضلي.
وهناك أيضًا أسباب خارجية، مثل التعرّض لبعض المواد السامة أو الأدوية التي قد تؤدي إلى اضطرابات عصبية.
إن فهم أسباب الاضطرابات العصبية أمر بالغ الأهمية للتشخيص المبكر أو في الوقت المناسب، وللوقاية من الضرر، ولوضع خطة علاجية مناسبة لاحتياجات المريض.
كما أن التعرف على عوامل الخطر المرتبطة ببعض الحالات قد يساعد في اتخاذ التدابير الوقائية. فعلى سبيل المثال، يعتبر استهلاك الكحوليات، خاصة عند الاستخدام المزمن، عاملًا سامًا للجهاز العصبي، وقد يؤدي إلى الإصابة بعدة أمراض عصبية.
أعراض الاضطرابات العصبية
تتنوّع أعراض الاضطرابات العصبية ما بين أعراض واضحة للغاية مثل الرعشة، أو الشلل أو التشنجات، وأعراض خفيّة قد يصعب ملاحظتها في البداية. فقد تظهَر على شكل تغيّرات في المزاج، أو صعوبة في التركيز، أو شعور بالتشوش الذهني، وهي أعراض تمسّ الصحة النفسية بشكل مباشر. كما قد تكون مَعرفية، مثل صعوبة التعبير أو إيجاد الكلمات المناسبة، أو اضطرابات في الكلام. وهناك أعراض أخرى شائعة قد نظنّها ناتجة فقط عن التوتر أو الإجهاد، مثل الأرق، أو الصداع المتكرر، أو التعب المزمن.
لكن، هل يعني ذلك أن علينا أن نقلق في كل مرة نشعر فيها بصداع أو نواجه صعوبة في التركيز؟ بالطبع لا. لا يجب المبالغة في القلق، ولكن في الوقت نفسه، لا ينبغي تجاهل الأعراض التي قد تكون مؤشراً لحالة تستدعي التدخل الطبي.
ولمعرفة ما إذا كان العرَض مقلقًا، يمكن النظر في مدى تكراره واستمراره، فمثلًا، الصداع العابر أمر طبيعي، أما إذا استمر لأيام عدة فقد يَستوجب الانتباه. كما أن ظهور عدة أعراض في الوقت ذاته قد يشير إلى مشكلة أعمق. فعلى سبيل المثال، إذا اجتمعت صعوبة التركيز مع الإرهاق المستمر ووجود صعوبات في الكلام أو التذكر، فإن ذلك يستدعي مراجعة الطبيب لإجراء التقييم اللازم. الانتباه إلى جسدك والتعامل بوعي مع الإشارات التي يرسلها هي الخطوة الأولى نحو الوقاية والتشخيص المبكر.
كيف يمكننا التعامل مع شخص يعاني من اضطراب عصبي؟
أول خطوة أساسية هي امتلاك فهم عميق لطبيعة الاضطراب، فذلك ضروري لنتمكن من إدراك التجربة الحقيقية التي يمر بها الشخص المصاب، فالاضطرابات العصبية قد تؤثّر بشكل كبير على الجوانب الجسدية والنفسية، ولهذا من المهم أن نثقّف أنفسنا حول كيفية التفاعل بطريقة متفهمة وداعمة ومحترمة.
الإلمام بأبعاد الاضطراب لا يساعد فقط في تقديم الدعم المناسب، بل يمنحنا أيضاً إحساسًا بالثقة والسيطرة على الموقف، مما يجنّبنا الشعور بالارتباك أو القلق عند التعامل مع تحديات غير مألوفة. التواصل هو عنصر أساسي، فإذا كان الشخص يعاني من صعوبة في النطق أو التعبير، من المهم أن نتحلى بالصبر، ونمنحه الوقت الكافي للتحدث دون مقاطعة. كذلك، يجب أن نُظهر التعاطف مع مشاعره ونُصغي دون إصدار أحكام، حتى وإن لم نفهم تمامًا ما يمر به. في بعض الأحيان، قد يشعر الشخص المصاب بالضعف أو الحساسية، لكن دعمك وتفهّمك قد يصنعا فارقًا كبيرًا في يومه وحتى في مسار تعافيه. التواصل الإيجابي والدعم النفسي البسيط قد يكونان أقوى مما تتخيل.
كيف يمكن علاج الاضطرابات العصبية؟
قد يتبادر إلى أذهاننا سؤال: هل جميع الاضطرابات العصبية تتطلب علاجاً؟ والإجابة هي: ليس دائماً. تختلف الحاجة إلى العلاج ونوعه حسب عوامل عدة، مثل نوع الاضطراب، ومدى شدته، وتأثيره على نمط الحياة اليومية، وما إذا كان مستقراً أو في حالة تطور. ففي بعض الحالات الخفيفة، قد يكتفي الطبيب بالمراقبة والمتابعة دون تدخل علاجي فوري. بل وقد تُعالَج بعض الحالات بإجراء تغييرات في نمط الحياة فقط، كتحسين وضعية الجسم أو تقليل التوتر، كما في حالات الصداع التوتري.
ومع ذلك، هناك حالات تَستدعي تدخلاً علاجياً لتحسين جودة الحياة أو إبطاء تقدّم المرض، كما هو الحال في مرض التصلب المتعدد أو مرض باركنسون. بينما هناك اضطرابات أخرى مثل التهابات الدماغ، قد تكون طارئة وتهدد الحياة، وتتطلب تدخّلاً طبياً فورياً لتفادي المضاعفات الدائمة.
تشمل خيارات العلاج الأدوية، مثل مضادات الاكتئاب لتخفيف الأعراض النفسية، أو الأدوية المعتمِدة على الدوبامين لعلاج مرض باركنسون. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم المعالَجات الفيزيائية لدعم الحركة وقوة العضلات، والعلاج الوظيفي لمساعَدة المريض في أداء مهامه اليومية، وعلاج النطق واللغة لتحسين مهارات الكلام والبلع.
فعلى سبيل المثال، يعاني بعض مرضى باركنسون من صعوبات في البلع أو التحدث بسبب تيبّس أو ضعف العضلات. يساعد علاج النطق واللغة في تقوية هذه العضلات وتدريب المرضى على تقنيات بلع آمنة، ما يقلل خطر الاختناق ويمنع حدوث الالتهابات الرئوية الناتجة عن دخول الطعام إلى مجرى التنفس.
ما أبرز علامات اضطرابات الجهاز العصبي؟
عندما يؤثّر الاضطراب على الجهاز العصبي، نادراً ما تمر العواقب دون أن تُلاحظ. قد تكون الأعراض متنوعة جداً، ولكن بعضها قد يكون بمثابة إشارات تحذيرية لحالة صحية خطيرة، وقد يكون وجود صداع شديد ومزمن لا يزول باستخدام المسكنات البسيطة ويستمر لأكثر من يوم مؤشراً على التهاب السحايا أو حالة صحية خطيرة أخرى. قد يشير فقدان التوازن أو التناسق في الحركات إلى مشكلة في الأذن الداخلية أو مرض باركنسون. الخدر أو التنميل قد يدل على اعتلال الأعصاب، أو التصلب المتعدد، أو حتى السكتة الدماغية.
قد تسبب السكتة الدماغية أيضاً حدوث صعوبة مفاجئة في فهم الكلام، خاصةً عندما لا يوجد سبب واضح لهذا التغيير، أو قد تؤدي إلى ضعف العضلات أو الشلل. اضطرابات الرؤية، أو فقدان الذاكرة، أو الارتباك هي أيضاً علامات يجب الانتباه لها. في حال حدوث نوبات اختلاجية، قد يكون ذلك نتيجة للصرع، لكن يمكن أن يرتبط أيضاً بحالات عصبية أخرى. في جميع هذه الحالات، من الضروري استشارة الطبيب فوراً، فالاكتشاف المبكر قد يُحدث فارقاً كبيراً.
ما الأمراض التي يمكن أن تنجم عن اضطرابات الجهاز العصبي؟
اضطرابات الجهاز العصبي هي أمراض تؤثّر على الجهاز العصبي، لكنها قد تسبب أيضاً حدوث أمراض أخرى أو تؤدي إلى مضاعفات لحالات صحية قائمة مسبقاً. هناك العديد من الأمثلة على الأمراض والمضاعفات الناتجة عن اضطرابات الجهاز العصبي. على سبيل المثال، قد يؤدي مرض ألزهايمر ومرض باركنسون إلى اضطرابات القلق والاكتئاب، وفي المراحل المتقدمة، قد يسبب صعوبات في التنفس والبلع. كما أن إصابة الدماغ الرضية (TBI) قد تؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بينما قد تتطور الاضطرابات العصبية إلى متلازمات الألم المزمن. قد تؤدي السكتة الدماغية إلى شلل جزئي أو كامل، وفي بعض الأحيان قد تظهَر آثار أكثر دقة مثل صعوبة في النطق (عسر الكلام) أو حتى فقدان القدرة على الكلام (الحبسة).
تنجم بعض المضاعفات بشكل غير مباشر عن حالة عصبية. على سبيل المثال، قد تؤدي قلة الحركة الناتجة عن السكتة الدماغية أو اضطراب عصبي آخر إلى الحاجة لاستخدام القسطرة البولية، مما يزيد من خطر الإصابة بالتهابات المسالك البولية.
كشفت دراسة نُشرت في مجلة eClinicalMedicine التابعة لـ The Lancet (2024) أن دولة الإمارات العربية المتحدة سجّلت أعلى زيادة عالمية في معدل حدوث السكتة الدماغية الإقفارية** بين عامي 1990 و2021، فقد ارتفعت النسبة بشكل مذهل بنسبة 652%. إن فهم هذه الروابط بين اضطرابات الجهاز العصبي ومضاعفاتها أمر بالغ الأهمية للتدخل المبكر، وتحسين الرعاية، وزيادة جودة حياة المرضى بشكل عام.
هل يمكن الوقاية من اضطرابات الجهاز العصبي؟
بعض اضطرابات الجهاز العصبي لا يمكن الوقاية منها لأنها ناتجة عن أسباب مناعية ذاتية أو وراثية، مثل مرض هنتنغتون. ومع ذلك، يمكن الوقاية من العديد من الاضطرابات الأخرى، أو على الأقل تقليل شدتها وخطر الإصابة بها بشكل كبير.
أسلوب الحياة الخامل، وتناول الكحوليات والتبغ، والتعرض المزمن للتوتر، جميعها عوامل تؤثّر سلباً على الصحة العامة. لذلك، من المهم اعتماد نمط حياة صحي يشمل نظاماً غذائياً متوازناً، وممارسة النشاط البدني بانتظام. كما أن إجراء الفحوصات الطبية الدورية، والسيطرة على الحالات المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم، هي عادات بسيطة لكنها فعّالة في الوقاية.
الصحة والسلامة هما خط الدفاع الأول، كما أن ربط حزام الأمان أو ارتداء الخوذة قد يقيان من إصابات دماغية خطيرة.
ورغم أننا لا نستطيع مَنع جميع اضطرابات الجهاز العصبي، فبإمكاننا تقليل احتمالية الإصابة بها من خلال اتباع نمط حياة صحي. التمارين المنتظمة، والفحوصات الدورية، والسيطرة على التوتر، واتباع نظام غذائي مغذٍ، كلها عوامل تساهم في تقوية جهاز المناعة وتقليل خطر الإصابة بالاضطرابات العصبية. تبنّي عادات صحية يمنح جهازنا العصبي أفضل فرصة للحفاظ على قوته وسلامته.
المصادر:
*Benamer HTS, Loney T. معدل الإصابة والانتشار لاضطرابات الجهاز العصبي في دولة الإمارات العربية المتحدة: مراجعة منهجية. BMC Neurol. 3 نوفمبر 2023؛ 23(1):396. doi: 10.1186/s12883-023-03446-6. PMID: 37923997؛ PMCID: PMC10623824.
** العبء العالمي والإقليمي والوطني للسكتة الدماغية الإقفارية، 1990–2021: تحليل لبيانات من دراسة العبء العالمي للأمراض 2021 – Li, Xin-yu وآخرون. eClinicalMedicine، المجلد 75، 102758.