صحــــتك

هل نستطيع أن نفتح الصدر؟

قبل وبعد التخدير الكلي.. ماذا يحدث؟

اعتَقَد الناس والأطباء والحكماء والأدباء أنّ في القلب سر الحياة، وذلك لأنّ الموت ارتبط لديهم دائماً مع توقف القلب عن الخفقان. وتصوَّر الأطباء والحكماء أنّ روح الحياة تتدفق مِنَ القلب إلى سائر أعضاء الجسم، وأنّ توقفه عن الخفقان ينزع روح الحياة عن سائر الجسد. كما أضفى عليه الشعراء والأدباء تدفق العاطفة ومشاعر الحب والهيام، بل ونَسب كهان بابل ومصر وأطباء الفرس واليونان الحكمةَ والعقلَ إلى القلب، ولمْ تميز قواميس العرب ومعاجمهم بين العقل والقلب.

لمْ يتمكن الأطباء مِنْ دراسة القلب ولا حتى الاقتراب مِنْ ذلك في الإنسان الحي. وكيف يستطيعون ذلك دون أنْ يودي بهذا الإنسان إلى الموت ؟! يقع القلب في الصدر، وتحيط به الأضلاع بشكل كامل وتحميه منَ الرضوض والإصابات. كما تحيط به الرئة التي تعمل في تناسق تام مع القلب، وتُقدِّم للجسم ما يحتاجه من الأوكسجين. عرف الأطباء أنّ توقف الرئتين عن العمل يؤدي أيضاً إلى الموت ..! وعلَّمتهم إصاباتُ الحروب أنّ الجرح الذي ينفذ إلى تجويف الصدر ويخترق غشاء الجنب (أو الغشاء البلوري) Pleura قد يؤدي إلى الوفاة، ليس بسبب النزف وحده بل بسبب دخول وخروج الهواء من خلال الجرح إلى تجويف الصدر أيضاً، مما يعيق التنفس ويؤدي إلى الوفاة.

توقفوا عند غشاء الجنب ..!

أَطلَقَ هذا التحذيرَ الخطيرَ الطبيبُ وعالِمُ الجيولوجيا والطبيعة الألماني إرنست ديفنباخ Ernest Dieffenbach (1811–1855): " توقفوا عند غشاء الجنب ولا تخترقوه ..! ". وقد احترم الأطباء والجراحون هذا التحذير لأنهم كانوا يعتقدون أنّ فتح الصدر واختراق غشاء الجنب الرقيق الذي يحيط بالرئة سيؤدي حتماً إلى وفاة المريض اختناقاً. وقد يستغرب أطباء جراحة القلب والصدر المعاصرون هذا التحذير، فهم يقومون باختراق غشاء الجنب كل يوم بسهولة ويسر، دون أنْ يحسبوا له حساباً يذكر!

مأساة في بولونيا

في مؤتمر الجمعية الألمانية للجراحة الذي عُقد في برلين سنة 1882، نهض العالم البولوني الشاب اللامع بلوك H. M. Block وقدَّم بكل ثقة نتائج أبحاثه التشريحية الجريئة التي قام بها في مختبر الحيوانات لاستئصال أجزاء منَ الرئة. صفق له الحاضرون تشجيعاً لجرأته العلمية وإعجاباً ببراعته ونتائج أبحاثه. وفور عودته مِنْ ذلك المؤتمر مشحوناً بالثقة والعنفوان، استَشَارتْه قريبة شابة لعلاجها مِنْ مرض أصاب رئتيها. اعتَقَد أنها مصابة بمرض السل الذي كان يفتك بالمصابين، ولمْ يكن له آنذاك مِنْ دواء أو علاج. قرر أنْ يحاول تطبيق نتائج دراساته وأبحاثه التي كان قد قام بها في المختبر، وأنْ يحاول استئصال ذلك الجزء التالف مِنْ رئتيها عسى أنْ يؤدي استئصال المرض إلى الشفاء. قام طبيب التخدير بإعطائها دواء التخدير الذي كان يُستخدم في تلك الأيام، وهو الإيثر، عن طريق تنقيطه على أنفها لكي يدخل جسمها مع هواء تنفسها ويعمل على إزالة الألم. كانت تلك هي الطريقة المستخدمة في التخدير آنذاك، وكانت طريقة ناجعة فعالة تمكَنَ الجراحون بفضلها منَ القيام بكثير مِنْ عمليات البطن والعظام والأطراف بنجاح باهر. ولكن ما أن اخترق الجراحُ الشاب غشاءَ الجنب في صدر المريضة حتى اضطرب تنفسها، وأخذ الهواء يدخل إلى تجويف صدرها مع كل شهيق، ويضغط على رئتيها أكثر وأكثر حتى لم تعد تتمكن منَ التنفس، وفشلت كل محاولاته في إنقاذها. انتهت هذه العملية الجريئة بوفاة المريضة المسكينة.

تمّ إجراء تحقيق رسمي في ظروف وفاة المريضة أثناء العملية حسب القوانين التي كانت سارية. ومما أثار حزن الجراح اللامع وزاد مِنْ شعوره بالذنب أنّ نتيجة تحليل العيّنة التي أخذها منَ الرئة المريضة لمْ تُظهر وجود أي أثر لمرض السل! لمْ يتحمل الطبيب الشاب مشاعر الحزن والأسى، فأمسك بمسدسه وانتحر بطلقة واحدة في رأسه. أنهتْ هذه المأساة حياته المهنية العابرة التي كانت تبشر بمستقبل باهر.

الحاجز الصعب

أدى تقدم طرق التخدير واكتشاف أدوية ووسائل التطهير والتعقيم في القرن التاسع عشر إلى حدوث تقدم سريع في كافة مجالات الجراحة العامة، إلا أنّ غشاء الجنب ظل حاجزاً منيعاً أعاق تقدم العمليات الجراحية في الصدر. ولم يستطع الجراحون إحراز أي تقدم في جراحة الصدر قبل أنْ يتوصلوا إلى حل لهذه المعضلة: كيف نتمكن مِن فتح صدر المريض دون أنْ يؤدي ذلك إلى وفاته؟

مَنْ يستطيع أنْ يعارض الرئيس ؟

في النصف الأول من القرن العشرين سَيطرتْ ألمانيا في ساحة العِلم. وفي مجال جراحة الصدر كان الدكتور فرديناند ساوربروخ Ferdinand Sauerbruck (1875-1951) رئيساً لقسم الجراحة في مستشفى شاريتيه Charité في الفترة 1928-1949، وتمتع بشهرة عالمية بسبب مهاراته الجراحية المتميزة، وأهمية المرضى المتميزين الذين عالجهم. كما حاز على الجائزة الألمانية في العلم والأدب قبيل الحرب العالمية الثانية. تقدم ساوربروخ باختراع جديد لحل مشكلة فتح الصدر، واقترح وضع جسم المريض في غرفة مُحْكمة الإغلاق تحت ضغط سالب (- 15 سم ماء) مع المحافظة على رأس المريض خارجها بحيث يتنفس تحت الضغط الجوي الطبيعي. وأمام دهشة وحماس زملائه، عرض ساوربروخ غرفة عملياته هذه في عام 1904، واستطاع أنْ يفتح صدر كلب تحت التخدير العام بالإثير، وأنْ يَخترق غشاء الجنب دون أنْ يؤدي ذلك إلى دخول الهواء إلى الصدر وإعاقة تنفس الكلب، بل تمّت العملية بنجاح تام. وعندما نجح في تطبيق هذه العملية على مرضى مِنَ البشر، كان ذلك فتحاً مبيناً في جراحة الصدر وطبقتْ شهرته الآفاق. صُنعتْ غرف الضغط السالب الخاصة بعمليات فتح الصدر خصيصاً تحت إشرافه، وتم تطويرها في ظل التفوق الهندسي الألماني، حتى أُنشئتْ غرف عمليات كاملة يوضع فيها جسم المريض تحت الضغط السالب، بينما تُوصَل أجسام الأطباء والمساعدين ورأس المريض إلى هواء تحت الضغط الجوي العادي خارج الغرفة، وذلك لكي تتم عملية التنفس لديهم بشكل طبيعي. في غرف عمليات الضغط السالب الضخمة هذه تَمكن ساوربروخ وآخرون من إجراء عمليات فتح الصدر واستئصال الأجزاء المريضة مِنَ الرئتين بنجاح متميز. عَرَض ساوربروخ غرفة عمليات الضغط السالب في أمريكا سنة 1908 وتركها في نيويورك تحت تصرف الأطباء الذين قاموا باستخدامها أيضاً في كثير من عمليات الصدر خلال الحرب العالمية الأولى وحتى أواخر العشرينيات منَ القرن العشرين على الرغم مما كان فيها مِنْ تعقيد هندسي شديد. خلال النصف الأول مِنَ القرن العشرين، كان ساوربروخ أشهر جراحي الصدر في العالَم، وكانت أمنية كل الجراحين الشباب هي زيارته في مشفى شاريتيه في برلين، وأصبح كتابه الخاص بجراحة الصدر المرجع الأول في هذا المجال.

 

فرديناند ساوربروخ Ferdinand Sauerbruck (1875-1951) مخترع غرفة عمليات الضغط السالب في 1904 التي تمكن فيها مِنْ فتح الصدر وإجراء العمليات الصدرية بنجاح.

التنفس تحت ضغط مرتفع، طريقة مختلفة ؟!

بينما كان ساوربروخ يتمتع بدعم الهندسة الألمانية وبشهرته العالمية، كان باحث أمريكي هادئ اسمه صمويل ميلتزر Samuel Meltzer (1851-1920) يحاول حل مشكلة فتح الصدر بطريقة مختلفة. فبدلاً مِنْ وضع جسم المريض تحت ضغط سالب ورأسه تحت الضغط الجوي الطبيعي، ماذا لو حاولنا أنْ نضع الهواء الذي يتنفسه المريض تحت ضغط أعلى مِنَ الضغط الجوي، ونترك جسمه وغرفة العمليات بكاملها تحت الضغط الجوي الطبيعي؟ سيتمكن المريض مِنَ التنفس بشكل جيد، ولن يندفع الهواء للدخول إلى صدر المريض عبر جرح العملية لأنه يتنفس تحت ضغط مرتفع. يبدو هذا الحل سهلاً مِنَ الناحية النظرية، كما أنّ نجاحه سيمكننا مِنْ تجنب المصاعب الهندسية المعقدة في بناء غرف عمليات الضغط السالب. ولكنْ كيف يمكن رفع ضغط هواء التنفس؟ يحتاج ذلك إلى إغلاق محْكم للطرق التنفسية التي يمر فيها الهواء إلى رئة المريض، أي إغلاق الفم والأنف. كما أننا يجب أنْ نتأكد مِنْ أمرٍ كان مجهولاً آنذاك، وهو هل تتحمل الرئتان ضغط هواء مرتفع؟ وإلى أي مدى يمكن تحقيق ذلك بأمان؟

بعد دراسات وتجارب طويلة على الحيوانات قام بها ميلتزر في مركز روكفلر للأبحاث العلمية في أمريكا، توصَّل إلى طريقة بسيطة لإغلاق الطرق التنفسية وذلك بوضع أنبوب مطاطي في القصبة الهوائية (الرُغامى) ونفخ بالون حوله لإغلاق الرغامى بشكل محْكم، ومِنْ ثمَّ يمكن دفع الهواء إلى الرئتين تحت ضغط مرتفع يمكن التحكم به بحيث لا تتضرر الرئتان. طُبقتْ هذه الطريقة في إعطاء التخدير العام لإجراء عملية فتح الصدر في نيويورك سنة 1910. وبعد أنْ أثبتتْ هذه الطريقة نجاحها وسهولتها، تخلى أطباء أمريكا عن غرفة عمليات الضغط السالب التي قدَّمها لهم ساوربروخ، وتمَّ تفكيكها وبيعها كمواد معدنية مستهلكة في عام 1928، ولم يستمر بالوجود من آثار غرف العمليات بالضغط السالب سوى بعض التطبيقات القليلة لما يسمى بالرئة الحديدية. ومِنَ الطريف أنْ نعلم أنَّ العالِم الشهير ابن سينا (980-1037) كان قد وصفَ في القرن العاشر الميلادي عملية وضع أنبوب معدني في حلق المريض ودفع الهواء في الأنبوب مباشرة إلى الرئتين لمساعدة المريض في التنفس، وذلك في كتابه الهام القانون في الطب!

صمويل ميلتزر Samuel Meltzer (1851-1920) درس طريقة التخدير العام بالضغط التنفسي المرتفع عن طريق أنبوب الرُغامى المجهز بالبالون في مركز روكفلر للبحوث العلمية في نيويورك 1908-1910 وأصبح أول رئيس للجمعية الأمريكية لجراحة القلب في 1917.

قام الطبيب الفرنسي الشهير ثيودور توفييه Theodore Tuffier (1857-1929) وعدد مِنَ الجراحين الفرنسيين والأمريكان بتطبيق طريقة وضع أنبوب الرُغامى والتخدير العام تحت الضغط التنفسي المرتفع أثناء عمليات فتح الصدر منذ العقد الأخير منَ القرن التاسع عشر، إلا أنّ أبحاث ميلتزر كان لها الفضل في نشر هذه الطريقة ووضعها على أسس علمية ثابتة.

كما قام توفييه نفسه بإجراء تجارب علمية لمعرفة مقدار ضغط الهواء الذي يمكن أنْ تتحمله الرئة بأمان أثناء التنفس. وأصبحت طريقة التخدير عن طريق أنبوب الرُغامى والتنفس تحت ضغط مرتفع هي الطريقة المتبعة في أمريكا عند إجراء كثير من عمليات جراحة الصدر منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن قوة نفوذ ساوربروخ وشهرته الطاغية أعاقتْ تقدم استخدام هذه الطريقة في ألمانيا وأوروبا.

مشاهدة صورة المصدر

أنبوب الرغامى مع البالون الذي يتيح للأطباء تقديم التنفس بضغط مرتفع أثناء عمليات الصدر والتخدير العام

جيل الروّاد

بعد حل مشكلة اختراق غشاء الجنب وفتح الصدر مع ضمان سلامة التنفس بفضل أنبوب الرُغامى، تمكن رواد جراحة الصدر مِنْ إجراء عمليات استئصال أجزاء مِنَ الرئة، واستطاع الجراح البريطاني هيو موريستون Hugh Morriston (1879-1965) في عام 1912 استئصال الفص السفلي الأيمن مِنَ الرئة بشكل تشريحي مفصل، وقام الجراح السويسري الشهير رودولف نيسين Rudolf Nissen (1896-1981) في بازل باستئصال الرئة اليسرى في 1932، كما قام الأمريكي إيفارتز غراهام Evarts Graham (1883-1957) باستئصال رئة كاملة بسبب إصابتها بورم خبيث في 1933. وتتابعت الإنجازات الهامة في تطوير جراحة الصدر على يد أطباء كبار مِنْ أمثال فرانز توريك Franz Torek (1861-1938) الذي كان أول مَنْ أجرى عملية استئصال المريء (أنبوب البلع) في عام 1913، ورغم نجاح هذه العملية إلا أنّ جراحة المريء كان عليها أنْ تنتظر ربع قرن آخر قبل أنْ تحقق أيّ تقدم يذكر، ولكنّ عمليته هذه حفزت الرواد إلى تأسيس الجمعية الأمريكية لجراحة الصدر في عام 1917 التي أصبحت ِمنْ أهم الجمعيات الطبية في هذا المجال، وكان أول رئيس لها هو صمويل ميلتزر الذي يعود إليه الفضل في حل مشكلة فتح الصدر وتطوير التخدير عن طريق أنبوب الرُغامى !

 

المصدر: 

كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني

 

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.