صحــــتك

صادم القلب الكهربائي وإحياء الموتى!

صادم القلب
جهاز صادم القلب الكهربائي وإنعاش المرضى

يمكن اعتبار قصة اختراع جهاز تنظيم القلب قصة نموذجية عن العمل الجماعي والتعاون في الفريق مثل كثير مِنَ الاكتشافات والاختراعات الهامة التي ظهرتْ في القرن العشرين.

سحرت الكهرباء لبّ العلماء وأثارت اهتمامهم بشكل خاص منذ القرن الثامن عشر. ففي 1775 وَضع العالم الهولندي نيكوليف آبيلغارد Nickolev Abildgaard قطبين كهربائيين على جانبي رأس دجاجة، وعندما مرر تياراً كهربائياً بينهما أُغمي على الدجاجة، وعندما وضعهما على صدرها ومرر التيار الكهربائي مرة أخرى انتفضت الدجاجة واقفة وركضت هاربة! ظهر الأمر وكأنه سحر إحياء الموتى أو كأنّ الكهرباء تُميتُ وتُحيي!

جيل الرواد

كان لويجي غالفاني أستاذاً في الطب عندما قام بتجربته الشهيرة سنة 1786 في إيطاليا التي لاحظ فيها أنه كلما لمس رِجل الضفدعة الميتة بسكين معدني ارتعشتْ رجلها وانسحبتْ بقوة نحو جسمها، وكتب كثيراً عما أسماه: "الكهرباء الحيوانية". ولكن عالِماً إيطالياً آخر قدم تفسيراً علمياً لهذه الظاهرة. ففي عام 1792 لاحظَ العالِم أليساندرو فولتا أنّ سبب حركة رجل الضفدعة في هذه التجربة هو وجود معدَنين مختلفَين: السكين المصنوعة مِنَ الحديد والطاولة المصنوعة مِنَ القصدير التي وضِعت الضفدعة عليها، وذكر أنّ الرطوبة الموجودة في جسم الضفدعة أدتْ إلى انتقال تيار كهربائي بين هذين المعدنَين عبر جسم الضفدعة وارتعاش عضلات رِجلها. قادتْ هذه التجارب العالم فولتا إلى صنع أول بطارية كهربائية في العالم أطلق عليها اسم: "بطارية فولتا". وبذلك تم اكتشاف نوع جديد مِنَ الكهرباء يمكن أنْ يسير بشكل مستمر مثل النهر، بدلاً مِنَ التفريغ المفاجئ الذي كان معروفاً عن الكهرباء قبل ذلك. أُطلق على وحدة قياس شدة التيار الكهربائي اسم: "الفولت" تقديراً لأبحاث العالِم فولتا في دراسة الكهرباء، كما أُطلق على الجهاز الذي يكشف ويسجل مرور التيار الكهربائي اسم: " مقياس غالفاني "، وفي الواقع فإن جهاز تخطيط القلب الكهربائي ماهو في حقيقته سوى مقياس غالفاني حساس يسجل التيار الكهربائي الضعيف الذي ينشأ عن تقلص عضلة القلب.

 

fig08

لويجي غالفاني Luigi Galvani (1737-1798) الطبيب الإيطالي الذي درس تأثيرات الكهرباء على الأجسام العضوية.

استخدام الكهرباء في إنعاش المرضى

كان الطبيب الاسكتلندي جون هنتر John Hunter (1728-1793) أحد أهم علماء الطب والفيزيولوجيا في القرن الثامن عشر وهو مِنْ أهم رواد البحث العلمي في الجراحة. وقد اقترح سنة 1776 محاولة استخدام الكهرباء في إنعاش الغرقى. وفي سنة 1788 حاول تشارلز كايت Charles Kite تطبيق ذلك عملياً، ووصف في تقرير بعنوان: " رسالة عن إنعاش الموتى " استخدام تيار كهربائي مستمر مِنْ بطارية في إنعاش طفلة في الثالثة مِنَ العمر كانت تبدو في حالة وفاة إثر سقوطها من نافذة. وصف تلك الحادثة بقوله: " بعد أخذ موافقة الوالدين حاولتُ انعاشها بالكهرباء بطريقة إنسانية لطيفة ما أمكن. كانت قد مرت عشرون دقيقة على الحادث قبل أنْ أتمكن مِنْ تطبيق الصدمة الكهربائية. طبقتُ الصدمة الكهربائية على مناطق عدة مِنْ جسمها دون نجاح، ولكن بعد تطبيق عدة صدمات كهربائية على صدرها شعرتُ بوجود نبض ضعيف في عروقها ثم بدأت الطفلة بالتنفس ببطء وصعوبة، وبعد عشر دقائق تقيأتْ، ولكن تحسَّن تنفسها. ظلّتْ في حالة ذهول وخبل بضعة أيام ولكنها شُفيتْ تماماً وعادتْ طبيعية بعد حوالي أسبوع ". تابع بعدها في تقديم رؤيته العلمية الثاقبة وصرَّح قائلاً: " الكهرباء هي أقوى منشط متوفر لدينا ... وبما أنها تستطيع تنشيط عمل عضلات الجسم بقوة ووضوح فربما تستطيع إنعاش وتنشيط عضلة القلب أيضاً وإعادة النبض إليه، خاصة وأنّ عضلة القلب أكثر قابلية للتهيج والإثارة، وبذلك قد نستطيع تحقيق أملنا الكبير في إنعاش الدورة الدموية ".

الصدمات الأولى

في سنة 1899 أوضحتْ تجارب جان لوي بريفو Jean-Louis Prevost (1838-1927) وفريديريك باتيللي Frederic Batelli في جنيف أنّ التيار الكهربائي يسبب الرجفان البطيني في القلب عند الكلاب، كما يمكن أنْ يعود القلب إلى نظمه الطبيعي بصدمة مِنْ تيار كهربائي مستمر أو متناوب، وكانت تجاربهم هذه أساساً لاختراع أول جهاز كهربائي لإزالة الرجفان البطيني في القلب (جهاز الصدمة الكهربائية أو الجهاز الصادم للقلب).

نَشر العالِم الاسكتلندي جون ماك ويليام John A. McWilliam (1857-1937) سلسلة مِنَ المقالات العلمية في الفترة بين 1887 – 1899 عن كهربائية القلب في الثدييات، واكتشف وجود العقدة الجيبية الأذينية Sino-Atrial node التي تُنظم إيقاع نبضات القلب مثل قائد الأوركسترا الموسيقية، كما درس انتشار التيار الكهربائي في القلب في حالة الرجفان البطيني، وافترضَ أنّ الموت المفاجئ عند البشر قد ينتج عن الرجفان البطيني، وأنّ الرجفان البطيني يمكن إزالته وإعادة انتظام القلب بصدمة كهربائية على القلب مباشرة.

 

جون ماك ويليام John McWilliam (1857-1937) الاسكتلندي الذي أسس عِلم دراسة كهربائية القلب.

طبيبة رائدة

كانت الدكتورة لويز روبينوفيتش Louise Robinovitch مِنْ أوائل النساء اللواتي درسن الطب في أمريكا. درستْ لويز الطب في كلية الطب للنساء في جامعة بنسيلفانيا وتخرجتْ منها سنة 1889، ثم تابعتْ دراستها وأبحاثها في فرنسا حيث اكتشفتْ أنّ الصدمات الكهربائية يمكن أنْ تنجح في إنعاش القلب. قامتْ لويز بتصميم جهاز يُعتبر مِنْ أوائل أجهزة الصدمة الكهربائية الأوتوماتيكية. ونَشرتْ سلسلة مِنَ المقالات العلمية في الفترة 1906 – 1909 وَصفتْ فيها تصميماً لجهاز صدمة كهربائية لإنعاش القلب يمكن حمله ونقله في عربات الإسعاف، ومِنَ المؤسف أنّ دراساتها وأبحاثها الرائدة هذه لم تلق كثيراً مِنَ الاهتمام آنذاك بسبب عدم وضوح فهم حالة الرجفان البطيني للقلب، واعتُبرت الصدمة الكهربائية لإنعاش القلب أمراً غير عملي، مما أدى إلى تأخير طويل في تطوير أجهزة الصدمة الكهربائية وأجهزة تنظيم نبض القلب.

أبحاث رائدة في الاتحاد السوفييتي

أُجريتْ أبحاث هامة في الاتحاد السوفييتي في الفترة 1938 – 1939 قام بها الباحث الرائد نعوم لازاريفيتش غورفيش Naum Lazarevich Gurvich (1905-1981) في موسكو حيث درس تأثيرات التيار الكهربائي المستمر والمتناوب على القلب. نُشرتْ أبحاثه باللغة الإنكليزية سنة 1945 وأثبت فيها أفضلية استخدام التيار الكهربائي المستمر على المتناوب في إزالة الرجفان البطيني للقلب. كما اكتَشَف منذ ذلك الوقت المبكر أفضلية استخدام التيار الكهربائي ثنائي الطور Biphasic الذي يُستخدم في أغلب أجهزة صادم القلب الكهربائي هذه الأيام. استُخدم جهاز صادم القلب الذي اخترعه غورفيش في عمليات القلب التي أُجريتْ في الاتحاد السوفييتي منذ عام 1952، في حين كان على جهازه ثنائي الطور أنْ ينتظر نصف قرن آخر قبل أنْ يُعمَم استعماله في أجهزة صادم القلب الخارجية والداخلية. حصل غورفيش على الجائزة الوطنية للاتحاد السوفييتي سنة 1970 تقديراً لإنجازاته العلمية.

هل يمكن إنعاش الموتى فعلاً؟!

بعد أنْ انتهى الجراح الأمريكي الشهير كلود شايفر بيك Claude schaeffer Beck (1894-1971) مِنْ إجراء عملية جراحية لإصلاح تشوه شديد في صدر طفل عمره 14 سنة، وبدأ بإغلاق الجرح، توقف نبض المريض فجأة ولم يعد لديه أي ضغط محسوس، وبدا كأن المريض قد مات. وبسرعة أعاد الجراح فتح الصدر وقام بإنعاش القلب بالضغط على القلب بيده مباشرة لضخ الدم في الجسم. استمر بيك في ذلك الجهد أكثر مِنْ نصف ساعة دون فائدة. أظهر تخطيط القلب أنه في حالة رجفان بطيني قاتل. قام بيك بتقديم صدمة كهربائية على القلب مباشرة، واستمر في ضغط القلب بيده كما طبَّق صدمات كهربائية متكررة على القلب. وفجأة ظهرتْ انقباضات ضعيفة متتالية في القلب، وازدادتْ قوتها تدريجياً وأصبحتْ أكثر انتظاماً. استمر في ضغط القلب باليد بضع دقائق أخرى لمساعدة الدورة الدموية. استعاد المريض ضغط الدم الطبيعي وانتظام النبض تدريجياً. نُشر تقرير عن هذه الحالة سنة 1947 وكان ذلك أول تسجيل علمي لحالة إنعاش ناجح للرجفان البطيني في القلب عند الإنسان. اقترح بيك منذ ذلك الوقت أنّ غرف العمليات يجب أنْ تحتوي على جهاز الصادم الكهربائي لاستخدامه في إنعاش القلب في حالات الرجفان البطيني المفاجئ، وأنه يجب تدريب كافة العاملين في غرف العمليات على استخدام هذا الجهاز، كما أكد على أهمية السرعة والدقة في تطبيق هذه الطريقة في الإنعاش.

 

الأمريكي كلود شايفر بيك Claude Schaeffer Beck (1894-1971) رائد جراحة القلب الذي وصف أول نجاح في صدم القلب كهربائياً سنة 1947.

 

نجحت الأجهزة الأولى في صدم القلب وإزالة الرجفان البطيني، ولكن تطبيقها كان صعباً لأنها يجب أنْ تُوضَع على القلب مباشرة، مما يتطلب بالطبع عملية جراحية كبيرة لفتح الصدر وكشف القلب. ولكن طبيب القلب الأمريكي بول موريس زول Paul Maurice Zoll (1911-1999) تمكن مِنْ اختراع جهاز صادم للقلب يمكن أنْ يوصِل الصدمة الكهربائية إلى القلب عبر الجلد دون فتح الصدر. قدّم زول جهاز صادم القلب الخارجي في بوسطن سنة 1956 واستخدمه بنجاح في صدم القلب دون فتح الصدر. كان الجهاز كبيراً ويحتوي على بطارية قوية يمكن إعادة شحنها.

بول موريس زول Paul Maurice Zoll (1911-1999) طبيب القلب الأمريكي الذي اخترع أجهزة خارجية لصدم القلب ولتنظيم النبض سنة 1956.

التيار ثنائي الطَّور

تم تطوير استخدام التيار الكهربائي ثنائي الطَّور في إزالة الرجفان البطيني على يد العالِم السوفييتي نعوم غورفيش Naum L. Gurvich في أواخر الثلاثينيات مِنَ القرن العشرين. ولكن ميزات هذا النوع مِنَ التيار الكهربائي لم يتم إدراك أهميتها في الغرب إلا في الثمانينيات. أظهرتْ دراسات عديدة في أواخر الثمانينيات أنّ التيار الكهربائي ثنائي الطَّور أفضل، لأنه ينجح في إزالة الرجفان البطيني باستخدام قدر أقل مِنَ الطاقة، مما يجعله أكثر أماناً وأقل ضرراً للمريض. كما أنّ انخفاض حاجة هذه الأجهزة إلى الطاقة جعلها أصغر حجماً وأقل وزناً وكلفة.

وهكذا تطورتْ أجهزة صادم القلب الكهربائي كثيراً في النصف الثاني مِنَ القرن العشرين وأصبحت متوفرة في سيارات الإسعاف والمستشفيات والفنادق والمطارات والطائرات والسفن والملاعب والمطاعم ... ونجحتْ في إنقاذ حياة كثير مِنَ الناس في كافة أنحاء العالِم.

 

المصدر:

كتاب "قصة القلب، كيف كشفه رجاله" للدكتور عامر شيخوني

 

آخر تعديل بتاريخ
30 مارس 2023

قصص مصورة

Consultation form header image

هل تحتاج لاستشارة الطبيب

أرسل استشارتك الآن

 

  • ابحث على موقعنا عن إجابة لسؤالك، منعا للتكرار.
  • اكتب بريدك الإلكتروني الصحيح (الإجابة ستصلك عليه).
  • استوفِ المعلومات الشخصية والصحية المتعلقة بالحالة المرضية محل الاستشارة.
  • لن يتم إظهار اسمك عند نشر السؤال.

 

Age gender wrapper
Age Wrapper
الجنس
Country Wrapper

هذا الموقع محمي بواسطة reCaptcha وتنطبق عليه سياسة غوغل في الخصوصية و شروط الخدمة

This site is protected by reCAPTCHA and the GooglePrivacy Policy and Terms of Service apply.