مرحلة الطفولة هي من أهم المراحل التكوينية في حياة الإنسان، إذ تسهم بشكل كبير في بناء صحته الجسدية والنفسية على المدى الطويل، فالتجارب الإيجابية والسلبية التي يمر بها الطفل قد تترك آثارًا عميقة ربما تستمر حتى مراحل لاحقة من حياته. التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة هو من التجارب القاسية التي قد تترك آثارًا نفسية وجسدية عميقة لدى الطفل تستمر حتى سنوات البلوغ، وتشمل هذه الإساءة أشكالًا متعددة من العنف، كالاعتداء الجسدي أو الجنسي والإهمال العاطفي. في هذا السياق، كشفت دراسة حديثة أن البالغين الذين تعرَّضوا في طفولتهم للإساءة الجسدية أو الجنسية هم الأكثر عرضة للإصابة بالعديد من الاضطرابات النفسية والأمراض الجسدية.
التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة وعلاقته بالأمراض النفسية والجسدية في سن البلوغ
اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات أكثر من 80000 شخص بالغ في الولايات المتحدة جُمعت من نظام مراقبة عامل الخطر السلوكي (BRFSS) لعامَي 2021 و2022، ونُشرت نتائجها في مجلة Child Maltreatment العلمية في 11 آذار/مارس 2025.
وجَد الباحثون أن البالغين الذين تعرَّضوا للاعتداء الجسدي والجنسي في طفولتهم كانوا أكثر عرضة للإصابة بمشكلات صحية جسدية ونفسية بمقدار الضعف تقريبًا مقارنة بالبالغين الذين لم يتعرضوا لأي نوع من الإساءة خلال طفولتهم. وظلَّت هذه العلاقة قائمة حتى بعد مراعاة بعض العوامل المؤثرة مثل: العمر والعِرق ومستوى الدخل والسلوكيات الصحية والسمنة. وشملت هذه المشكلات الصحية:
- الذبحة الصدرية.
- التهاب المفاصل.
- الربو.
- مرض الانسداد الرئوي المزمن.
- النوبة القلبية.
- الاكتئاب.
- الإصابة بإعاقة أو عجز.
كما أظهرت النتائج أن البالغين الذين تعرَّضوا للاعتداء الجنسي فقط في طفولتهم، دون التعرُّض للاعتداء الجسدي، كانوا أكثر عرضة للإصابة بهذه المشكلات الصحية بنسبة تراوحت بين 55% و90% مقارنة بالبالغين الذين لم يتعرضوا لأي اعتداء في طفولتهم. وأما الذين تعرضوا للاعتداء الجسدي فقط في طفولتهم، دون التعرض للاعتداء الجنسي، فقد كانوا أكثر عرضة للإصابة بهذه المشكلات الصحية من الآخرين بنسبة تراوحت بين 20% و50%.
التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة.. عِبء نفسي وجسدي قد يستمر مدى الحياة
أوضحت شانون هولز، الباحثة الرئيسية للدراسة من جامعة تورنتو في كندا: "لا يُفكِّر الناس عادةً في تأثير التجارب القاسية التي يُواجهها الشخص في مرحلة الطفولة على صحته في مراحل لاحقة من حياته. تُسلط دراستنا الضوء على العلاقة السلبية بين التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة ، مثل الاعتداء الجنسي أو الجسدي، والإصابة ببعض المشكلات الصحية في مرحلة البلوغ".
ودرس الباحثون تأثير وجود شخص بالغ في المنزل يمنح الطفل شعورًا بالأمان والحماية، على صحة الأطفال على المدى البعيد لمعرفة ما إذا كان ذلك يرتبط بتحسن حالتهم الصحية في مراحل لاحقة من حياتهم بعد تعرضهم للإساءة الجسدية أو الجنسية في طفولتهم. وأظهرت النتائج أن وجود هذا الشخص في منزل الأطفال الذين تعرضوا للإساءة، يُخفِّف من شدة التأثيرات السلبية التي قد تتركها هذه التجارب القاسية على صحتهم.
وأشارت آندي ماكنيل، الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة تورونتو، إلى أنه من الواضح أن هذه العلاقات قد تؤدي دورًا رئيسيًا في دعم الأطفال الذين تعرَّضوا للإساءة وتقلل التأثيرات السلبية على صحتهم.
التعرض للإساءة في مرحلة الطفولة وتأثير الدعم العائلي على الصحة النفسية والجسدية
أكدت الدراسة على أهمية وجود شخص بالغ داعم في المنزل للأطفال الذين تعرَّضوا للإساءة، وكذلك للأطفال الذين لم يتعرضون لأي شكل من أشكال الإساءة. وأظهرت أن عدم وجود هذا الشخص في المنزل يزيد من احتمال إصابة الأطفال في مرحلة البلوغ بمشكلات صحية جسدية بنسبة تتراوح بين 20% و40%، وبالاكتئاب بمقدار الضعف، وذلك بغض النظر عمّا إذا كانوا قد تعرضوا للإساءة في مرحلة الطفولة أم لا.
أوضح الباحثون أن هذه النتائج تُشير إلى أن غياب علاقات الأطفال الآمنة والمستقرة مع البالغين في المنزل قد يكون له تأثير سلبي على صحتهم بما لا يقل خطورة عن تأثير تعرُّضهم للاعتداء الجسدي، وأضافوا: "تؤكد هذه الدراسة على أهمية العلاقات الإيجابية بين الأطفال والبالغين في عائلتهم، ونأمل أن تُسهم نتائجها في تطوير برامج فعّالة لمساعدة الأطفال الذين مرّوا بتجارب إساءة".