ارتجاجات الدماغ وإصابات الرأس المتكررة في رياضات مثل كرة القدم والملاكمة هي من النتائج الحَتمية السلبية التي كانت مقبولة في الرياضات التنافسية الشديدة، ولكنها تُعتبر الآن تهديدًا صحيًا خطيرًا. وما يُثير القلق بشكل خاص، هو العلاقة بين إصابات الرأس والأمراض العصبية التنكسية مثل مرض ألزهايمر والاعتلال الدماغي الرضحي المزمن ومرض باركنسون، وهو ما دفع الاتحادات الرياضية إلى تعديل قوانين اللعب والمعدّات الواقية لتقليل هذه المخاطر على صحة اللاعبين. كشف باحثون من جامعة تافتس في الولايات المتحدة وجامعة أكسفورد في بريطانيا أن إصابات الرأس قد تنشط الفيروسات الكامنة في الدماغ وتسبب في حدوث التهابات وتلَف يتراكم على مدى الأشهر والسنوات التالية، ما يؤدي إلى الإصابة بأمراض تنكسية عصبية. نُشرت الدراسة في مجلة Science Signaling العلمية في 7 كانون الثاني/يناير 2025.
إصابات الرأس قد تنشط الفيروسات الكامنة.. خطر خفي يهدد الدماغ
يحتوي الميكروبيوم على مئات الأنواع من البكتيريا المفيدة التي تعيش داخل أجسامنا وتساعد في عملية الهضم وتطور الجهاز المناعي والحماية من مسببات الأمراض. ومع ذلك، فهو يحتوي أيضًا على عشرات الفيروسات التي تتجمع بأعداد كبيرة، بعض هذه الفيروسات يمكن أن تكون مضرة، ولكنها تبقى كامنة أو غير نشطة في خلايا الجسم.
يُعرف عن فيروس الهربس البسيط من النوع الأول (الموجود لدى أكثر من 80% من البشر) وفيروس الحُماق النطاقي أو جدري الماء النطاقي (الموجود لدى 95% من البشر) أنهما قادران على الدخول إلى الدماغ، وأن يكمُنان (يبقيان في حالة خاملة) داخل الخلايا العصبية والخلايا الدبقية.
أشارت العديد من الدراسات السابقة إلى أن تنشيط فيروس الهربس البسيط من النوع الأول (HSV-1) من حالته الكامنة يؤدي إلى ظهور أعراض مميزة لمرض ألزهايمر في نماذج مختبرية من أنسجة الدماغ، مثل تراكم لويحات الأميلويد (تراكمات غير طبيعية لبروتين الأميلويد بيتا في الدماغ)، وفقدان الخلايا العصبية، والالتهابات، وتدهور وظائف الشبكة العصبية.
وقالت مؤلفة الدراسة الدكتورة دانا كيرنز، أستاذة الطب الحيوي في جامعة تافتس: "في دراسة سابقة، سبب فيروس آخر، الحُماق (أو جدري الماء)، حدوث التهابات أدت إلى تنشيط فيروس الهربس البسيط من النوع الأول. ومن هنا تساءلنا عما سيحدث إذا تعرض نموذج من أنسجة الدماغ لاضطراب جسدي مثل ارتجاج الدماغ، هل سيؤدي ذلك إلى تنشيط فيروس الهربس البسيط من النوع الأول وبدء عملية التنكس العصبي؟"
إصابات الرأس قد تنشط الفيروسات الكامنة في الدماغ وتزيد خطر الإصابة بمرض ألزهايمر
في دراسة سابقة منذ 30 عامًا أشارت البروفيسورة روث إيتزاكي، الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة أكسفورد، إلى وجود علاقة محتملة بين فيروس الهربس البسيط من النوع الأول والإصابة بمرض ألزهايمر، وأظهرت في دراساتها أن هذا الفيروس يُعاد تنشيطه في الدماغ بسبب حالات مثل التوتر أو نقص المناعة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تلف الخلايا العصبية.
في هذه الدراسة، استخدم الباحثون نماذج مختبرية تحاكي بيئة الدماغ لفهم كيفية تسبب ارتجاجات الدماغ في إعادة تنشيط الفيروس وبدء التنكس العصبي. وكانت بعض نماذج الأنسجة تحتوي على فيروس الهربس البسيط من النوع الأول، بينما كان بعضها خاليًا من الفيروس. ثم قاموا بتعريض هذه النماذج لصدمة مفاجئة تحاكي ارتجاج الدماغ، وراقبوا الأنسجة تحت المجهر بمرور الوقت.
وكشفت النتائج أن إصابات الرأس قد تنشط الفيروسات الكامنة في الدماغ، وقد تمت إعادة تنشيط فيروس HSV-1 في الأنسجة التي تحتوي على الفيروس بعد ضربات الرأس، وبعد ذلك بوقت قصير، ظهرت العلامات الرئيسية لمرض ألزهايمر، مثل تراكم لويحات الأميلويد، وتشابكات البروتين تاو، والالتهابات، وموت الخلايا العصبية، وزيادة عدد الخلايا الدبقية. وعندما تعرضت الأنسجة لصدمات متكررة، تفاقمت هذه التأثيرات في النماذج التي تحتوي على الفيروس. وفي المقابل، زاد عدد الخلايا الدبقية قليلًا في النماذج التي لا تحتوي على الفيروس، ولم تظهر أي من العلامات الأخرى لمرض ألزهايمر.
إصابات الرأس قد تنشط الفيروسات الكامنة في الدماغ.. هل يمكن الوقاية من تداعياتها؟
تشير هذه النتائج إلى أن ارتجاجات الدماغ التي يتعرض لها الرياضيون قد تكون السبب في إعادة تنشيط الفيروسات الكامنة في دماغهم، والتي يمكن أن تؤدي إلى إصابتهم بمرض ألزهايمر. وقد أظهرت الدراسات الوبائية أن الضربات المتعددة على الرأس يمكن أن تزيد احتمالية الإصابة بأمراض تنكسية عصبية بمقدار الضعف أو أكثر خلال الأشهر أو السنوات اللاحقة.
أكد الباحثون أن هذه المشكلة لا تقتصر على الرياضيين فحسب، فإصابات الدماغ هي أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى الإعاقة أو الوفاة لدى البالغين، وهي تُصيب حوالي 69 مليون شخص سنويًا حول العالم، وتكلف حوالي 400 مليار دولار في السنة.
وأشاروا إلى أن الأدوية المضادة للفيروسات قد تكون علاجات وقائية مبكرة بعد التعرض لإصابة في الرأس، وأوضحت الدكتورة كيرنز أن هذه النتائج تفتح الباب أمام إمكانية استخدام الأدوية المضادة للفيروسات والأدوية المضادة للالتهابات كعلاج وقائي مبكر بعد التعرُّض لإصابات في الرأس، وذلك لمنع تنشيط فيروس الهربس البسيط من النوع الأول، وتقليل خطر الإصابة بمرض ألزهايمر.